على غرار ما جرى في 2006، حيث أعلن حزب الله «انتصاره الإلهي» في حرب تموز، استتبع هذا الإعلان موجة عاتية من التخوين والتكفير ضد كل من لا يقول قول الحزب في السياسة. استمرت حفلة التخوين أكثر من سنتين، لم يتوقف خلالها الإعلام «الممانع» عن إلصاق كل التهم المقترنة بالتهديد بالقتل والإعدام لكل معارض أو غير مهلل. استعاد اللبنانيون المشهد نفسه في الأسابيع الماضية، في التمهيد لمعركة جرود عرسال وخلالها وبعد انتهائها، فاهتاج إعلام «الممانعة» بموجة جديدة من التخوين والترهيب وصولا إلى المطالبة بإعدام كل معترض على الخط السياسي لحزب الله أو لإيران وسورية. من يقرأ ويسمع ما يكتب وما يقال في وسائل الإعلام، يخيل إليه أنه يستمع إلى أبو بكر البغدادي أو إلى الزرقاوي. فنحن أمام خطاب «داعشي» بامتياز، يقول به من يدعي أنه يحارب التكفيريين والإرهابيين، فيما يتقمص شخصية هؤلاء ويسقطها على معظم الشعب اللبناني.
يصاب المرء بالذهول من حجم التحريض على القتل ضد من يقول رأياً سياسياً مخالفاً. لقد بات اقتران القول بالنصر ممراً إجبارياً لشيطنة الآخر وهدر دمه والدعوة إلى قتله. قبل النقاش السياسي لما يجري، بات الموضوع بحاجة إلى قراءة سوسيولوجية وسيكولوجية لهذا المسلك التخويني والتكفيري الذي يطل برأسه كل فترة، معمقاً الانقسام الطائفي والمذهبي بين اللبنانيين، وهو انقسام لا يحتاج إلى هذه الشحنات من الكراهية والأحقاد، فهو ممتلئ بها قلباً وقالباً. لكن، وعلى رغم موجة الكراهية التي تبنى جدرانها بين اللبنانيين بين آن وآخر لوظائف متعددة ليس أقلها شد العصب الطائفي والمذهبي لتغطية وقائع ومجريات الحرب في الداخل أو الخارج، فإن النقاش حول النصر وكيفية فهمه والتدقيق في مضمونه يبقى حاجة فعلية في وجه الديماغوجيا المتصاعدة يميناً ويساراً، بحيث تجعل من الشعب اللبناني شعباً خائناً.
قيل الكثير في حرب تموز ونتائجها. كانت الحرب آنذاك قراراً مزدوجاً، إيرانياً– سورياً من جهة، وأميركياً– إسرائيلياً من جهة أخرى، استخدم الطرفان فيها الساحة اللبنانية لتصفية حسابات وإرسال رسائل. في تلك الحرب، لا يمكن إلا تسجيل البطولات التي اتسم بها قتال المقاومة الإسلامية، وحجم الأضرار التي ألحقتها بإسرائيل وكسرت من هيبتها في الداخل الإسرائيلي. هذه وقائع لا يمكن أحداً إنكارها. لكن ذلك لم يكن يعني الإعلان عن النصر الإلهي آنذاك. فحجم الضحايا من قتلى وجرحى وتدمير البنى التحتية اللبنانية وتهديم القرى والأحياء، ناهيك بالحصار الذي خضع له لبنان براً وبحراً على امتداد أشهر، كل ذلك لا يستدعي القول بالنصر. والأخطر من كل ما حصل هو القرار 1701 الذي منع على المقاومة التواجد في الجنوب، والذي أمّن السلام لإسرائيل الذي لا تزال تنعم به على امتداد أحد عشر عاماً. وهو القرار الذي نقل معركة الحزب من الجنوب إلى الداخل وأغرق المقاومة في وحول الحرب الأهلية الداخلية، خصوصاً في ما عرف بأحداث أيار (مايو) 2008.
أما اليوم، تختزل معارك حزب الله في جرود عرسال والانتصار على التكفيريين فيها كل المشهد اللبناني. لا شك أنها معركة تصب في النهاية في المصلحة اللبنانية، خاضها الحزب ودفع شهداء فيها. لكن النقاش ملزم بأن يسأل عن الأطراف التي أتت بهذه القوى إلى جرود عرسال، والتي تقع المسؤولية الرئيسية فيها على النظام السوري، واستتباعاً على القوى التي تدخلت في الحرب وساهمت في تهجير أبناء المنطقة وإحلال التنظيمات الإرهابية فيها. كما من حق كل لبناني أن يتساءل عن توقيت المعركة، حيث يعرف كل متابع للأزمة السورية، أن سورية تخضع الآن لمبضع التقسيم، تحت عنوان اقتطاع مناطق النفوذ. فما جرى في الجنوب السوري بين روسيا وأميركا، أدى إلى إبعاد إيران عن المنطقة هناك، فكان الجواب الإسراع في استكمال الشريط الذي تدرجه إيران في سياق خطتها لإنجاز الهلال الشيعي. إن كشف هذه الحقائق قد يكون السبب الأكبر في هياج الإعلام المسمى ممانعاً ونبرته العالية لإسكات المعترضين.
تبقى كلمة حول النصر في سورية. خلافــاً لادعاءات تجعل من كل استرجاع موقع على الأرض وتحويله انتصاراً، فإن الجميع مهزومون في سورية. من النظام إلى القوى الداعمة له، إلى إيران والميليشيات التابعة لها، ناهيك بالتنظيمات الإرهابية التي أتى بها النظـــام والقوى الإقليمية والدولية لضرب الانتفاضة السورية. كلها اليوم مهزومة، والمهزوم الأكبر هو سورية التي انتهت ككيان ومجتمع وبنى تحتية. المنتصر الحقيقي هو: روسيا وأميركا وإسرائيل. هذه القوى هي التي تقرر اليوم مصير سورية وتتقاسم مناطق النفوذ فيها.
* كاتب لبناني |