الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
في أعالي جبال القلمون، على الجبهة الأمامية مع "داعش" - روبرت فيسك
يواجه تنظيم "الدولة الإسلامية" الآن الهزيمة المطلقة في القلمون، ولدى الجيش السوري - في لبنان - و"حزب الله" والجيش اللبناني رغبة شديدة في أن يتحقق ذلك. 

تنتشر القوات السورية الآن في مواقع في الجانب اللبناني من الحدود بين البلدَين في معركتها الهادفة إلى القضاء على "الدولة الإسلامية" في جبال القلمون الشاهقة. تتحلل الجثث على سفوح الجبال في هذه المنطقة فيما يستعدّ "حزب الله" اللبناني - الذي يقاتل الآن في الداخل السوري - لخوض معركة أخيرة ضد الإسلاميين الذين باتوا مطوّقين على قمة شاهقة من الحجارة السوداء نحو الشمال. من أعالي جبل قارة، على علو سبعة آلاف قدم فوق الحدود السورية - اللبنانية، استطعتُ رؤية الجنود السوريين المتمركزين في أعلى الجبلَين - داخل لبنان.

يروي قائد عمليات الجيش السوري في القلمون، العقيد الركن مدين عباد، الحقيقة من دون تردّد، قائلاً: "نعم، يتمركز جنودنا في نقطتَين داخل لبنان - فوق الطريق الحدودي الذي استخدمه داعش لدخول بلدة عرسال اللبنانية. رجالنا موجودون في سلسلة جبال لبنان الشرقية. يمكنكم رؤية خيمهم". وبالطبع، عبر الوادي الضيّق الذي يفصلنا عن لبنان، يمكنني رؤية مجموعة الخيَم العسكرية السورية الرمادية المنتشرة على قمة التلتَين اللبنانيتين. يؤكّد العقيد الركن أنه يتواصل مع الجيش اللبناني - ويسمع عن بعد أصوات النيران التي يطلقونها من دباباتهم باتجاه تنظيم "الدولة الإسلامية" - عن طريق "حزب الله" الذي انضمت قواته إليه في الهجوم على جبل قارة.

السير على هذه المرتفعات الشاهقة بعد المعركة، التي انتهت قبل خمسة أيام فقط [نُشِر المقال في 28 تموز]، يتسبّب بالدوار. رائحة جثث مقاتلي "الدولة الإسلامية" التي لم تُدفَن بعد، عَصْفُ الهواء الجبلي الذي يُمزّق أكياس الرمال عبر الخنادق والحفر المظلمة التي أقامها تنظيم "الدولة الإسلامية" قبل معركته الأخيرة، وشبكة الأنفاق - التي حفرها المدافعون الإسلاميون في الصخر مدفوعين بأملٍ عقيم بالصمود في وجه الهجمات الجوية السورية - تُظهر مدى ضراوة المعركة. لم ينجُ مقاتل واحد من تنظيم "الدولة الإسلامية" - وهذا يروي حكاية بذاته - على الرغم من أن مقطع فيديو لافتاً صوّره المنتصرون خلال القتال يُظهر عنصراً من "حزب الله" يقول لرجل محتضر من "الدولة الإسلامية" مضرّج بالدماء: "كان الله معك" - وهو دعاء لافت من مقاتل شيعي لسنّي مُحتضِر.

يفتح ضابط سوري، على متن شاحنة "بيك آب"، أكياساً كاكية اللون تحتوي على جثث ثلاثة قتلى من "الدولة الإسلامية" في محاولة عقيمة للتعرّف على هويتهم. لقد انتفخت الجثث بفعل درجة الحرارة التي وصلت إلى 46 درجة مئوية، وتعفّنت إلى درجة اسوداد لونها، وكان أحد القتلى بالثياب الداخلية فقط. لم يبدُ الانزعاج على الجنود السوريين ومقاتلي "حزب الله" الذين كانوا يشاهدون الجثث عن بعد بضعة أقدام، وكان عدد كبير منهم يضع يدَيه على وجهه. كانوا يشنّون عملية مشتركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" - يقع مركز القيادة التابع لهم في فيلا من طابق واحد في قرية فليطة - ويقولون إنه لم يسقط لهم سوى جرحى في المعركة. يتواجد أطباء في خيمة طبية في أعالي الجبال مع شارة "الصليب الأحمر الإيراني" مطبوعةً على إحدى جهاتها - لكن يبدو أنه لا وجود للإيرانيين هنا.

يقول العقيد الركن عباد، 48 عاماً: "شنّ الجيش السوري وحزب الله قتالاً للسيطرة على أعالي الجبال مع قوات الدفاع الوطني [بدوام جزئي]، لكن القوات الخاصة التابعة للجيش السوري وحزب الله هي التي خاضت المعركة"، مضيفاً: "بالنسبة إلينا، حزب الله مدرسة في القتال. تعلّمنا من تجربتهم وتبادلنا أيضاً المعارف والخبرات، كنّا نتدرّب معاً خلال القتال، وبالطبع، كانت لدينا مدفعيتنا الخاصة". تنتشر المدفعيات والأسلحة المضادة للطائرات التابعة للجيش السوري في مختلف أرجاء الجبال - حتى إن أحد السائقين المتحمّسين تمكّن من قيادة دبابة قتالية روسية الصنع لمسافة آلاف الأقدام عبر المسار الصخري المتداعي وصولاً إلى قمة جبل قارة.

جلس قائد عمليات "حزب الله"، وهو لبناني من الجنوب ذو لحية قصيرة وشعر أشيب يضع نظارة على عينَيه ويقول إنه في السابعة والثلاثين من العمر - أعرف مسقط رأسه جيداً، لكنني أعتقد أنه أكبر سنّاً مما يدّعي - إلى يميني أثناء تناول الجنود طعام الغداء تحت الخيمة، وقد اختلطت هذه الوجبة إلى حد ما مع رائحة الجثث على بعد بضعة أمتار، وأصرّ أحد ضباط الاستخبارات لدى "حزب الله" على تصويري وفمي مليء بالأرز والدجاج لقمةً تلو الأخرى. ليست لديّ أدنى فكرة ماذا سيفعل "حزب الله" في بيروت، الذي يعرفني، بهذا الفيديو.

غير أن مقاتلي "حزب الله" والجيش السوري جلسوا معاً في الخيمة وبدا عليهم أنهم يعرفون بعضهم بعضاً جيداً، ويتشارك ضابط "حزب الله" ومقاتلوه مع الجنود السوريين احتساء "المتّة" السميكة والمثيرة للرعدة - المصنوعة من ورق أشجار أرجنتيني - التي هي ركيزة أساسية في كل الوجبات العسكرية السورية. كان العديد من عناصر "حزب الله" يحملون بنادق قنّاصة جديدة، غير أن معظمهم كانوا مجهّزين برشاشات الـ"كلاشينكوف" المألوفة التي يستخدمها الجيش السوري. وكان زيّهم البنّي الفاتح الذي يُستخدَم في التمويه، متمايزاً إلى حد كبير عن زي القتال الأخضر والبني الذي يرتديه السوريون.

نحو الشمال يقع الحصن الأخير لتنظيم "الدولة الإسلامية". يتمدّد المدافعون عنه داخل خيم سوداء، وفي الجهة الجنوبية ثم نزولاً، نصبَ مقاتلو "حزب الله" الذين يستعدّون لشن هجوم على التنظيم، خيَمهم البيضاء على سفح الجبل. سوف يُطلَق مزيد من نيران المدفعية - ويُشَنّ مزيد من الهجمات الجوية - في الأيام القليلة المقبلة، بحسب العقيد الركن عباد. وقد تبيّن أن المكان حيث يتمركز في أعلى الجبل هو نقطة ممتازة لمراقبة الهجوم؛ يقع جبل قارة على علو 7020 قدماً عن سطح البحر - في حين أن المواقع الإسرائيلية في جبل حرمون في مرتفعات الجولان نحو الجنوب بالكاد يصل علوّها إلى ألفَي قدم، ويوافق عباد على أن السوريين لن يغادروا أبداً جبل قارة - الذي يقع بالطبع داخل سوريا، بعدما باتوا يتمركزون على قمته. تتمايل هوائيات الأجهزة اللاسلكية العسكرية كما سنابل القمح فوق الصخور.

لاحت لي، في الجهة الجنوبية الغربية، بلدة عرسال اللبنانية - التي اجتاحها تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" لفترة وجيزة سابقاً. وقد ذُبِح بعض العسكريين اللبنانيين الذين دافعوا عنها؛ ولا يزال آخرون - وعددهم تسعة على الأقل - محتجزين رهائن في مكان ما في هذه الجبال، في الجانب اللبناني من الحدود على الأرجح.

أغار الجنود اللبنانيون على مخيمات اللاجئين السوريين على مقربة من عرسال. وفي إحدى العمليات التي نفّذها الجيش اللبناني أخيراً، عمد رجلان إلى تفجير نفسَيهما، غير أن أربعة آخرين توفّوا خلال احتجازهم لدى السلطات اللبنانية، بسبب معاناتهم من "مشكلات طبية" في الأصل، كما جاء في بيان صادر عن الجيش في بيروت. إنها رواية محتملة، لكن لا اللبنانيين ولا السوريين اكترثوا كثيراً للأمر.

يواجه تنظيم "الدولة الإسلامية" الآن الهزيمة المطلقة في القلمون، ولدى الجيش السوري و"حزب الله" والجيش اللبناني رغبة شديدة في أن يتحقق ذلك. سوف يؤدّي القضاء على التنظيم إلى التخلص من التهديد الذي يشكّله لخط الإمدادات الذي يستخدمه "حزب الله" عبر طريق الهرمل - بعلبك السريع داخل لبنان، وإلى بسط السيادة اللبنانية من جديد على بلدة عرسال. يراقب الديبلوماسيون الغربيون المعركة الأخيرة انطلاقاً من الجانب اللبناني من الحدود، إنما بالطبع لا يمكنهم القدوم إلى سوريا - ويبدو أنهم لا يدركون أن هناك جنوداً سوريين داخل الأراضي اللبنانية، ولو على بعد بضع مئات الأمتار فقط من الحدود.

الشاهد الغربي الوحيد على الجانب السوري من النزاع في الجبال هو صحيفة "الإندبندنت"، وقد أعطى العقيد الركن مدين عباد وصفاً تكتيكياً عن المشهد الميداني. في الجنوب، حول بلدات الزبداني وبلودان ومضاية، يجري العمل بوقف لإطلاق النار بين السوريين من جهة و"جبهة النصرة" وحلفائها من جهة ثانية، وهو عبارة عن محادثات "للمصالحة" قد تُفضي إلى إعادة هذه البلدات من جديد إلى السيطرة السورية. في حال تكللت هذه المحادثات بالنجاح - وتحقّق النصر في الهجوم الوشيك على تنظيم "الدولة الإسلامية" انطلاقاً من جبل قارة - فسوف تصبح الحدود السورية-اللبنانية بكاملها خالية من وجود الإسلاميين الذين غالباً ما كانوا يفرّون إلى لبنان كي لا يتم القبض عليهم في سوريا، ويستخدمون لبنان بمثابة طريق للإمدادات العسكرية - عن طريق عرسال - باتجاه سوريا.

تمتدّ منطقة جرد عرسال على مساحة 150 كيلومتراً مربعاً من الجبال الصخرية المغطّاة بشجيرات صغيرة حيث تعصف الريح، وهي تقع في لبنان وسوريا على السواء، ويفصل بين الجزئَين دربٌ ترابي ضيّق عند الحدود يقع على مسافة خمسمئة متر فقط تحت المكان حيث نتواجد.

إنه دربٌ سلمي مخادع رُسِم - بالطبع - في قاعة فرنسية ما عندما كانت سلطات الانتداب الفرنسية تعمل على فصل لبنان عن سوريا في مطلع عشرينات القرن الماضي. لعلّه بدا منطقياً في الصالونات الباريسية، لكنه يبدو مخلوقاً وهمياً وغير واقعي في جبل قارة، مليئاً بالأفخاخ السياسية والعسكرية. ربما هذا ما أراده الفرنسيون قبل كل تلك العقود.

لدى العقيد الركن عباد رؤية أكثر حدّة عن الأحداث الراهنة. لقد أدرك الرئيس بشار الأسد باكراً "المؤامرة الدولية" لتدمير سوريا و"حزب الله" والمقاومة - لهذا انطلق التنسيق بين سوريا وإيران و"حزب الله"، كما يقول. كانت إسرائيل "الداعِمة الأساسية للإرهابيين"، لهذا عمدت إلى مهاجمة القوات السورية وقوات "حزب الله" – ولهذا السبب قدّمت قطر والسعودية المساعدة في هذه "المؤامرة". يضيف عباد: "نسمع أصواتاً تركية وسعودية وقطرية تتحدث عبر الإذاعات الإرهابية، وكذلك أصواتاً أفغانية تتكلم بلغة عربية رديئة"، مشيراً إلى أنه "بعد النصر الذي حققه حزب الله على إسرائيل في لبنان عام 2006، أراد كثرٌ نزع سلاح الحزب في إطار مشروع الشرق الأوسط "الجديد" الذي أطلقته [وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك] كوندوليزا رايس. كان البعض في لبنان يطالبون بنزع السلاح فيما حاول آخرون إخراج سوريا من ’مسار المقاومة‘. إلا أننا قاومنا هذه المحاولات - ونحن قادرون الآن على محاربة داعش معاً".

لكن تنظيم "الدولة الإسلامية" سوف يردّ. فهم لا يزالون، انطلاقاً من معقلهم الأخير في الجزء الشمالي من الجبل الأسود، يطلقون طائراتهم المصغّرة من دون طيّار باتجاه الخطوط السورية وخطوط "حزب الله". ونحو الجنوب الشرقي، تشقّ الشاحنات التابعة لـ"حزب الله" والجيش السوري طريقها في الجبل حيث تعبر أمام المزارعين المحليين وأبنائهم الذين يقطفون الثمار من أشجار الكرز. يقدّم هؤلاء الكرز إلى الجنود أثناء عبورهم من هناك. يسأل عباد بحزن: "لقد ساعدتهم الحكومة على زرع هذه الأشجار - فلماذا قدّموا دعمهم لتنظيم داعش أثناء وجوده هنا؟"

نعم، الكرز في جبل قارة يانع وحلو - وخطير.

مراسل صحيفة "الإندبندنت" في بيروت. 

(جبل قارة، غرب سوريا)


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة