الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
انتحار القاضي وانتحار القضاء - سلام الكواكبي
"لقد قررتُ أن أنتحر؛ لأنني أعرف أنه لن يكون لدي القوة، من الآن فصاعدًا، لمواجهة التحديات التي تنتظرني".. هكذا كتب قاضي التحقيق الفرنسي جان ميشيل لامبير، وهو الذي كان مكلفًا بقضية اختفاء طفل وقتله، في بداية ثمانينات القرن الماضي، إذ توصّل لامبير، حينئذ، من خلال القرائن المتاحة، إلى براءة أحدِ المتهمين الذي اغتيل من قِبل والد الطفل الضحية، في انتقام بعيد من الأدلة والعدالة. 

قصة الطفل المخطوف والمحاكمات التي تلت اكتشاف جثته يمكن أن ترد في صفحات الحوادث المتفرقة في الصحف المحلية، خصوصًا إنْ أُخِذ بالحسبان زمن حصولها. بالمقابل، فقد قام القضاء الفرنسي بإعادة فتح التحقيق مؤخرًا بالجريمة؛ سعيًا للوصول إلى الفاعل الحقيقي مستخدمًا أساليب حديثة وبرامج تحليل الخطوط (وهي لم تكن موجودة في ذلك الوقت)، إضافة إلى التحليلات المخبرية التي جرى اكتشاف سبل استخدامها أيضًا في العقدين الأخيرين. وقد سمحت خطوة إعادة فتح التحقيق، لبعض الصحفيين، بالتعرّض إلى القاضي لامبير الذي كان مكلفًا بهذه القضية سنة 1984. وهذا القاضي المنتحر ترك السلك، منذ زمن بعيد وانتقل إلى كتابة الروايات التي اشتهرت وصار له منها الكثير. فما الذي يدفع قاضيًا فرنسيًا متقاعدًا، يعيش مع أسرة يحبها وتحبه، وله نشاط روائي ناجح، إلى أن ينتحر نتيجة حدث كهذا؟

لقد شرح القاضي المُنتحر، في رسالة كتبها لصديقٍ صحافي، أسبابَ خياره معبّرًا عن أسفه، لأن إعادة فتح الملف في قضية الطفل "غريغوري" ستفاقم الألم وتفتح الجروح من دون الوصول إلى نتيجة تذكر، مُعتبرًا أن هذه الخطوة ستبوء بالفشل. وقال إن بعض زملائه القضاة الذين قرروا ذلك يبحثون عن الظهور، وعن كبش محرقة في هذا الملف. وكتب إنه "يرفض أن يلعب هذا الدور"، مضيفًا أن ضميره المهني - وإن كان قد أخطأ - مرتاحٌ؛ لأنه استند إلى ما توفر لديه حينذاك من أدلة، وما زال مصرًا على براءة الشاب الذي أطلق سراحه وتم اغتياله، منهيًا كلامه بالإشارة إلى أنه يُفضّل أن يُعلن انتهاء اللعبة: "العمر له دور، وإنني لا أملك من القوة ما يكفي لأحارب. لقد ختمت مصيري". هكذا اختتم رسالته.

قصة غريبة لقاضٍ ينتحر، بعد قرابة 34 عامًا من "إخفاقه" في كشف جريمة والوصول إلى المجرم، كما يعتقد بعض زملائه اليوم وبعض الصحافيين، في حين يعتقد هو أنه قام بواجباته ضمن حدود ما يسمح به القانون. قصةٌ تكاد اليوم تصفع عديدًا من أقرانه الذين يُمارسون هذه المهنة النبيلة بعيدًا كل البعد عن مناقبها، وعن مبادئ العدالة والشفافية. يجري ذلك في كثير من الدول عمومًا، وفي الدول العربية خصوصًا، حيث هي ناقصة أو عديمة الديموقراطية، وتفتقر إلى فصل السلطات، وحيث تخضع السلطة القضائية "قانونًا" للسلطة التنفيذية أو تخضع السلطة القضائية واقعًا وبشكل عملي للأجهزة الأمنية أو أصحاب السطوة وممارسي الترهيب والترغيب، وما أكثرهم في هذه الأصقاع المحرومة من دولة القانون.

هل يمكن اعتبار القاضي لامبير قاضيًا وذاك الكائن المختبئ وراء نظارات سوداء في ظلمة قاعة المحكمة المصرية.. ذاك الذي حكم على ملفات 500 متهم بالإعدام، في دقائق معدودات، مستندًا إلى مكالمة آمرة من هذا الجهاز أو ذاك؟ هل يمكن أن يكون قاضيًا بالحق وبالعدل -كما القاضي لامبير- مَن يُخضع قرارته القضائية إلى الحاجة المالية، ويبيع أخلاقه وحيوات الناس، مقابل حفنة من الدولارات؟ هل يمكن أن يكون قاضيًا مرتاح الضمير من يعرف أنه يحكم على البريء ويبرئ المجرم؟ هل القاضي لامبير قاض، وذاك القاضي الذي أرسل بعشرات الألوف من الشبان والشابات إلى غياهب سجون الاستبدادات المتنوعة والمنتشرة من أقصى مغرب المنطقة إلى أقصى مشرقها؟

السؤال الذي يطرح نفسه هو: كم من القضاة العرب الذين يمكن أن ينتحروا، إن هم شعروا للحظة بظلم ما اقترفوه وببراءة من حكموه وبجريمة من منحوه حرية مدفوعة أم مفروضة؟ الآلاف؟ عشرات الألوف؟ جميعهم؟

القضاة ليسوا هم المسؤولين بل هي الأنظمة السياسية المستبدة التي حرمت المشهدَ الوطني من الممارسة الصحيّة الصحيحة لمهنة القضاء، وكممت الأفواه؛ ممّا أغلق المجال أمام الإعلام لطرح المسألة بوضوح وشفافية، بعد أن صارت المحاسبة من المحرّمات في الممارسات السياسية التسلطية في الدول العربية.

صار لزامًا إذًا أن يلتفت المجتمع المدني العربي عمومًا، والسوري خصوصًا، إلى مسألة إصلاح القضاء، ليس بالاستناد المحصور بالنصوص وبالتقنيات وبالأدوات فحسب، وإنما أيضًا بما يرتبط بأخلاقيات المهنة والتزاماتها شبه المقدّسة.

في زمن قريب، انتحر وزير فرنسي سابق؛ لأن بعض الصحافيين اتهمه بأنه استفاد من قرضٍ بشروط مخففة لشراء منزل؛ وبالتالي فقد استفاد من موقعه التنفيذي في الوصول إلى ذلك. قرأ مسؤولٌ سوريٌ الخبرَ، وكاد أن ينقلب من على كرسيه من شدة نوبة الضحك الهستيري التي انتابته، والتفت إليّ قائلًا، ولعابه ينتشر في محيط فمه: "شو هالحمار!".

(موقع جيرون)


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة