لا توجد إحصائية دقيقة للاغتيالات والاختطاف في العراق. فالسلطات الرسمية لا تكترث كثيراً بأرشفة الاخبار السيئة التي تحدث يومياً، أما الصحافة فلا تعير أهمية أيضاً لمثل هذه الحوادث، وغالباً تتعامل معها إذا ما هزّ اغتيال او اختطاف الرأي العام بنقل الرواية الرسمية "اضطراراً" ومن ثم تقمص رواية "جديدة" يضعها الممول المدعوم من جهة سياسية أو ميليشيا مسلحة، ويكون تسويق هذه "القصة" عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تعمل كماكنة نشطةٍ لتسطيح أي حدث ومن ثم ابتلاعه في خضم "قصص جديدة" تشبع الرغبات الفضولية وتثير زوابع من العراك الطائفي، وصولاً إلى التحريض الذي قد تكون نتيجته القتل او الاختطاف.
بازار الجريمة
ولأن بلاد ما بين النهرين اللذين يجفان على مهلٍ دون اكتراثٍ أيضاً، "بازار" جريمة مفتوح، تتطور فيه مهارات القتل والتبرير وتنشيط الخلايا الدموية، فإن السلطات هي أيضاً انعكاس بشع للشعبوية والطائفية التي أطاحت بالعراقيين في خرم الموت المتسع، وتفتقر للاحتراف الذي يُحتم قراءة ظواهر الإرهاب والعنف الاجتماعي، ومسبباتها عبر الحصيلة الرقمية التي تنتجها تلك الأعمال، فحتى اللحظة وبعد مضي 14 عاماً من سقوط نظام عبر احتلال والإتيان بآخر "جديد" أنتج خطابات أزهقت الوطنية العراقية بعد أن حولها النظام "القديم" الى جثة متحللة أفرزت أمراض النظام الجديد. لم تستطع الحكومات المتعاقبة ووزاراتها من وضع برنامج أرشفة رسمي يضمن إتاحة إحصائيات موثوقة للرأي العام. ولولا الحصيلة الرقمية الشهرية التي تصدرها بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) لأعداد الضحايا في المدن العراقية، إضافة الى موقع iraq body count الذي يحصي ويُصنف ويحدد هويات الضحايا العراقيين، لما كان من الممكن العثور على أرقام موثوقة لظاهرة العنف المباشر في العراق. وفي خطوة تدل على عدم الإكتراث والغرق بالفشل، احتجت الحكومة العراقية على نشر (يونامي) للاحصاءات الشهرية بعد أن أوردت البعثة أعداد العسكريين القتلى في عملية استعادة الموصل ضمن حصيلة ضحايا العنف. هذه المحاولة تمثل واحدة من أعمال التضييق على نشر إحصاءات موثوقة، وتشير إلى العقلية المرعوبة من فضح تداعيات الفشل الأمني في البلاد مع تزايد مخاطر العسكرة والسلاح تحت مسميات مختلفة.
لكن بموازاة ضحايا العنف المباشر للأعمال الإرهابية والحملات العسكرية، وحملات الاغتيال والقتل المنظمة، تبرز ظاهرة موت جديدة تتمثل بحالات الانتحار المتزايدة في المدن العراقية التي تتمتع باستقرار نسبي (جنوب العراق)، لكنها تظل أيضاً أرقاماً غير موثقة رسمياً، لكن بعض التقارير المحلية والدولية تكشف أن محافظتي ذي قار (جنوب) وديالى (شمال شرق) تسجل أعلى نسب انتحار منذ أعوام.
نظام جديد برسم الاغتيال
تسرد رواية "قتلة" للروائي العراقي ضياء الخالدي لمحة مثالية عن عالم مافيات الاغتيال في العراق. ورغم أن الكاتب لم يستطع أن يُشير إلى الجماعات الحقيقية التي تمارس القتل الممنهج عبر الاغتيال وعوّمت الاتهام، لكنها تظل إشارة اجتماعية يتيمة في كشف الظاهرة المتنامية، التي بدأت مع انهيار السلطة القابضة في التاسع من نيسان 2003.
في العاشر من نيسان 2003، كانت آلة قتل عشوائية تجتاح البلاد لتصفية أنصار نظام صدام حسين، ريثما تحولت إلى ماكنة منظمة تصطاد بعثيين ورجال أمن وضباط عسكريين وطيارين وشملت مثقفين وفنانين وحتى المعارضين للنظام المُطاح به الذين انتقلوا إلى خانة معارضة النظام الجديد. كانت أولى جرائم الاغتيال المدوية، قتل عبد المجيد الخوئي نجل مرجع الطائفة الشيعية الأعلى "أبو القاسم الخوئي" في بطن الصحن الحيدري. كان اغتيالاً بشعاً عبّرَ عن صورة العراق المقبل مع انفلات رغبات السيطرة على السلطة. وفي 29 آب من العام نفسه، اغتيل رئيس ما كان يُعرف بـ"المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق"، محمد باقر الحكيم بتفجير عنيف عند أحد ابواب الصحن الحيدري نفسه الذي اغتيل عنده الخوئي، وفي 25 ايلول من العام نفسه أيضاً اغتيلت عضو مجلس الحكم عقيلة الهاشمي حين فتحت مجموعة مجهولة النار عليها أمام منزلها في الكرخ بوصفها "علمانية سافرة"، فيما اغتيل الرئيس الدوري لمجلس الحكم عز الدين سليم في 17 ايار 2003 بانفجار ضخم عند إحدى بوابات المنطقة الخضراء، وضاعت قتلته بين القبائل السياسية والمسلحة في البلاد. كانت تلك أولى الاغتيالات السياسية. لكنها كانت بوابة الإغتيال بدوافعه المتباينة طيلة 14 عاماً. المدن الجنوبية وبغداد كانت ومازالت حقلاً نشيطاً للتصفية الجسدية والاختطاف، وأية محاولة لحصر تلك العمليات ربما سيحتاج إلى سنوات من البحث والتقصي التي قد تودي بحياة من يتطوع لمثل هذه المهمة القاتلة. فيما تظل الإشارة الى القتلة الحقيقيين ومشغليهم ضرباً من مجازفة دامية.
... وسيلة لقمع الاحتجاج
خلال السنوات الثمان لحكم نوري المالكي المدعوم إيرانياً، وفشله في تحقيق السقف الأدنى من الخدمات والأمن، وبروز ظاهرة الإحتجاج السياسي والاجتماعي في المدن العراقية المختلفة، سواء كانت على المقسم الشيعي أو السُني، فإن الظاهرة المقابلة لها تمثلت باستخدام العنف المفرط بالتعامل مع تلك الاحتجاجات من قبل سلطة المالكي وترهيب الخصوم، والإقدام على اختطافهم وتصفيتهم أو ملاحقتهم قانونياً، ما أفرز واقعاً شبيهاً بالعنف الذي استخدمته السلطة البعثية.
في 25 شباط 2011، تظاهر مئات آلاف في مدن عراقية مختلفة ولاسيما العاصمة بغداد احتجاجاً على الفشل السياسي والخدمي والأمني والتفرد بالسلطة من قبل المالكي، وقمعت تلك التظاهرات التي بدأت في المحافظات الشيعية بقوة، فيما فضّت التظاهرة الأبرز بساحة التحرير ببغداد بعنف مفرط، ولوحق النشطاء فيها، واعتقلوا لأيام في مراكز احتجاز سرية واخرى غير رسمية، فكان أشبه بالاختطاف وممارسة تعذيب وترهيب ضدهم.
كان الضحية الأبرز لتلك الحركة الاجتماعية العفوية ضد فساد السلطة، المسرحي والإعلامي هادي المهدي الذي اغتيل في منزله بالكرادة وسط بغداد في الثامن من أيلول 2011، وفي 23 أيلول 2015 اختطف المتظاهر جلال الشحماني في منطقة الوزيرية ببغداد والذي لم يطلق سراحه حتى اللحظة، وسط تكهنات بأنه قد قتل على يد الجهة الخاطفة "المجهولة".
غالباً ما يشار رسمياً إلى الجهات الخاطفة أو التي تقوم بعمليات الاغتيال بـ"المجهولة" في الروايات الرسمية الحكومية، فيما تتحاشى المنظمات الحقوقية والمدنية في بيانات الاستنكار تسمية تلك الجهات المعلومة بحكم الإتصالات التي تُجرى بين مستويات السلطة في العراق وتلك المنظمات لتسهيل إطلاق سراح المختطفين أو لمعرفة مصير الذين تتم تصفيتهم. ستار من التعمية المتعمدة تقوم بها السلطة والمنظمات ذاتها بعدم الإشارة إلى الجناة، ما حفّزّ الفصائل المسلحة المنتشرة كالسرطان في المدن العراقية على القيام بأعمالها الإرهابية تلك بمزاج احترافي مع تفشي "الإفلات من العقاب" وخنوع المجتمع المدني لفعالية الترهيب المستمرة وتواطؤ السلطة معها.
أبرزت ظاهرة اختطاف الصحافية أفراح شوقي (اختطفت في 27 كانون الاول 2016 وأطلق سراحها بعد أسبوع)، واختطاف النشطاء المدنيين السبعة (اختطفوا من سكنهم بشارع السعدون فجراً في 8 ايار 2017 وأطلق سراحهم بمزرعة نائية شمال بغداد) فضلاً عن حالات أخرى مشابهة في محافظات جنوبية، عن سلوك جديد يشير إلى ضعف السلطة وحجم التواطؤ مع الميليشيات، ففي الحالتين أعلاه كانت الجهة الخاطفة مُعرّفة لدى الجهات الامنية، وبدلاً من تفعيل القانون وتجريمها وإعلانها ميليشيات إرهابية، قامت السلطات بحمايتها من الملاحقة أو حتى تحفيز المختطفين على رفع دعاوى قضائية ضدها لتكون اساساً لتقديم الجناة الى المحاكمة. فيما رضخ المختطفون إلى تهديد الفصائل المسلحة وتوصيات الجهات الأمنية بعدم الكشف عن الجهات الخاطفة حفظاً لحياتهم ولعدم تعكير الجو العام في البلاد إزاء مشاركة هذه الميليشيات بالحرب على الإرهاب. ولأول مرة تتقدم السلطات والمختطفين بـ"الشكر" للخاطفين على "هبة الإبقاء على حياتهم".
ميليشيات ضد المجتمع
فوضى السلاح في العراق، فعّلت قوى مسلحة باتت أقوى من الدولة والسلطة، تمارس إرهاباً ممنهجاً لا يقل عن إرهاب ما يعرف بـ"داعش"، إن لم تكن مكملة لمسلسل الارهاب ذاته، وداعمة له عبر إضعاف الدولة، بنتيجة أن القضاء على الجماعات الإرهابية الجهادية يحتم بالضرورة انتفاء الحاجة لأي سلاح غير شرعي مرتبط بالخارج على أساس محاربة الارهاب، لذا فإن هذا السلاح في حقيقته المستقبلية موجه إلى الداخل العراقي والأصوات المدنية المطالبة بـ"الدولة المدنية" لا بـ"السلطة الحزبية البوليسية" وإخضاع المجتمع لرؤيتها المتطرفة والشعبوية ببناء مجتمع أحادي مغلق يؤمن بذات المقولات الدينية المتطرفة التي يؤمن بها "الإسلام الجهادي" وعلى أساس عنصري طائفي ومناطقي، وإفراغ المدن العراقية من القوى المدنية والديمقراطية تسهيلاً لحلم الانقضاض على السلطة بالكامل.
ممارسات الخطف/ الاغتيال/ التصفية/ الملاحقة/ التحريض، هي ممارسات عنفية من طرف السلاح ومشغليه، فضلاً عن الكتبة والصحافيين المأجورين الذين يقومون بمهمة دونية بمراقبة الأصوات الحرة والنشطة، والتحريض عليهم وخلق جو عام مضاد لهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت مغناطيساً لاستقطاب الطائفيين والجيوش الالكترونية المدفوعة الثمن والمستنفرة لتسقيط أي صوت مخالف لرؤيتهم الهادمة، ما يبرر لحملة السلاح اختطافهم وتصفيتهم. بالتالي بات "الفيسبوك قاتلاً". فخلال الاشهر الماضية كانت حفلات التحريض والتسقيط ضد من يراد استهدافه، فبعد أي حملة من تلك الحملات، يتم الإعلان عن اختطاف ناشط أو كاتب أو صحافي أو فنان أو حتى مواطن له رأي، لتظل التمنيات بأن يحالفه الحظ إن كان اسماً معروفاً بأن يطلق سراحه، إن كان مغموراً فيعثر على جثته في مكبٍ للنفايات كما في حالة الفنان المسرحي كرار نوشي الذي استبقت تصفيته حملة تسقيط مشينة أودت بحياته. فيما تمارس الشعبوية الاجتماعية فعلها المشين بالحماس ذاته إزاء حالات ابتزاز تتعرض لها فتيات، كما في حادثة المغدورة "نبأ الجبوري"، الصبية اليافعة التي انتشرت لها فيديوهات وصور بأوضاع حميمة وخاصة، سرّبها مجهول يعتقد أنه شاب كان على علاقة معها، فعملت ماكنة "الفيسبوك" على تجريم الفتاة وتناقل المواد المُسربة مع هجمة "أخلاقية" تجاه الفتاة التي لقيت حتفها قتلاً، فيما ظلّ المجرم الحقيقي طليقاً بحكم الحاكمية الذكورية التي تتسيّد المجتمع.
السلطة المخيفة
لا سلطة أعلى من سلطة الميليشيات، ولا صوت يعلو فوق صوت الطائفة، ولا موقف يُسمح به يقف بالضد من موقف حملة السلاح في العراق الجديد. ففعل الاختطاف والاغتيال هو محصلة طبيعية لدولة منهارة تجاهد أن تكون نظاماً متماسكاً في ظل التمزق السياسي والاجتماعي والتدخلات الخارجية، واختطاف القرار الامني من قبل ميليشيات وفصائل. ولعل فضيحة اختطاف الصيادين القطريين والعمال الأتراك، صورة مقربة لحجم انهيار النظام وتغوّل إرادات مسلحة عليه و"دولة عميقة" من إرث نظام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
في كانون الاول 2015 أعلن عن اختطاف صيادين قطريين من أمراء العائلة الحاكمة في قطر مع حاشيتهم في بادية السماوة (غرب العراق). لم يعلن عن الجهة الخاطفة. في 21 نيسان 2017 أطلق سراحهم جنوب بغداد (المحمودية). ولم يُعلن أيضاً عن الجهة الخاطفة. لكن السلطات والرأي العام كانا على علم دقيق بالجهة الخاطفة التي تم التستر عليها، وأن أموالاً طائلة كان من المفترض أن تسلم إليها لقاء صفقة مالية بلغت 330 مليون دولار وفقاً لما كشف عنه رئيس الوزراء حيدر العبادي، لكنها صودرت من قبل الحكومة. لكن الصفقة السياسية، تمثلت بربط اختطاف صيادين في العراق دخلوا بتأشيرات رسمية مع صفقة المدن الأربع في سوريا بين الجماعات المسلحة السورية وأخرى إرهابية والسلطة القائمة في دمشق برعاية إيرانية قطرية – روسية، وكأن العراق بات بستاناً إقليمياً لفض نزاعات خارج الحدود.
الجهة الخاطفة نفسها، اختطفت في الثاني من ايلول 2015، من ملعب كرة قدم (قرب مدينة الصدر) قيد الإنشاء 18 عاملاً تركياً. وبعد مضي ثلاثة اسابيع اطلق سراحهم بمنطقة جنوب بغداد (المسيّب)، عقب مداهمة لقيادة عمليات بغداد أوكار الميليشيا في شارع فلسطين ما تسبب بصدام مسلح راح ضحيته جندي عراقي، فشكل ذلك الاشتباك ضغطاً على الجهة الخاطفة فضلا عن وساطة إيرانية فاطلق سراح العمال. لكن بالنتيجة لم تتجرأ الحكومة على كشف اسم الميليشيا ولا تقديم الجناة الى المحاكمة.
الرعب الذي تعيشه المدن المستقرة نسبياً في العراق، بسبب انتشار السلاح غير الشرعي والمرتبط بالميليشيات، يشكل عائقاً حقيقياً امام تطبيق القانون وفرض سيادة الدولة، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفع سقف الخدمات المتردي، فالعراق يشهد فوضى مراكز قوى ومعرقلات تنمية نتيجة ثنائية التحريض/ السلاح، إضافة إلى دعايات الترهيب غير المباشرة المتمثلة بالترويج للسلاح كضامن وجودي لـ"العراقيين" إزاء الارهاب والانهيار الأمني.
(موقع جدليّة) |