المواقف والتصريحات المختلفة لفرقاء السياسة والاقتصاد حول مواضيع الساعة تستفز المنطق السليم، وتشحذ المفاهيم الخاطئة، وتعمم معلومات مغلوطة، وتستجدي أحقاداً مدفونة. لذا، أتيت بهذه التغريدات، ليس صباً للزيت على النار، ولا حتى تصويباً، إنما لمواجهة الاستفزاز بمثله، ولقض مضاجع العابثين بعقول المواطنين.
نعم لأكبر سلسلة رتب ورواتب:
لقد أدركنا الملل على مر السنين من متابعة نقاشات ودراسات تظهر حرص جهات متعددة، تقف غالباً على طرفي نقيض في معظم القضايا الأخرى، على تأمين الموارد المالية اللازمة، وعدم مد الأرجل خارج البساط، وعدم تعريض الليرة والاقتصاد بكله لهزات كارثية، وغيرها من سيناريوهات انهيارية تنبئ بنهاية "العالم". لقد استخدمت جميع الأسلحة في وجه السلسلة، منها التشكيك بقدرة الدولة على تحمل الأعباء المالية الناتجة عنها، ومنها اقتراحات بالتأجيل، وبالتقسيط، وبتحييد بعض المستفيدين. أما الأنكى، فربطها بسلسلة (أخرى) من الإصلاحات يتوجب على الدولة إجراءها قبل الشروع في دفع الأموال. والدولة حتماً لن تفعل، ولا يرغب كثير من المستفيدين من السلسلة بحدوث هذا الإصلاح، لأنه يحتم على العاملين في القطاع العام ساعات عمل أكثر وانتاجية أعلى، ويجبر موظفي "التغيب الدائم" على الحضور إلى مراكز العمل. لا خلاف على أن السلسلة تقوم على أسس مالية غير سليمة، وتشكل فعلاً عبئاً، وسوف يستفيد منها آلاف الموظفين الذين لا يعملون، وهي، بإقرارها، ستشكل ظلامة بالنسبة إلى جميع القوى العاملة الأخرى في الاقتصاد التي لن تستفيد منها. أمام كل هذا نقول: وسعوا السلسلة الى حدها الأقصى! وبما أن القسم الأكبر من أموال الدولة مصيرها الهدر، إذ أن لا إصلاح حقيقياً على الأبواب، فإن هدر المال في السلسلة هو أجدى اقتصادياً من أي هدر آخر، لأن هذه الأموال سوف تنفق حالاً في الأسواق على المواد الاستهلاكية، ما يسهم في تسريع العجلة الاقتصادية، لما لهذه الأموال من تأثير مضاعف قد ينتج نمواً اقتصادياً إضافياً بحدود اثنين بالمئة. لقد كانت سياستنا الاقتصادية دائماً هي الهروب الى الأمام، وهذا الإنفاق الزائد هو أسرع أبواب الهروب.
نعم لأكبر عدد من اللاجئين السوريين:
يتبارى المعنيون بتضخيم عدد اللاجئين السوريين في لبنان. فمن المليون لاجىء الذين أحصتهم الأمم المتحدة (وقد غادر جزء كبير منهم لبنان إما عائداً إلى الديار أو مهاجراً الى بلاد أوسع رحمة) تضاعف الرقم عند هذا وذاك، واستشرت الروايات عن المنافسة غير المشروعة من قبل اللاجئين، وعن منع السوريين من التجول في العديد من المناطق بعد مغيب الشمس، وغيرها من تصرفات تتنافى وقيمنا. إن عدد السوريين يقل في الحقيقة بكثير عن رقم الأمم المتحدة، التي لا قدرة لها على التثبت من أن من أحصتهم يقيم فعلاً في لبنان. لا بأس من تضخيم الأرقام بغية الحصول على فتات أكثر من المساعدات الدولية، لكن الحقيقة أن بعض رؤساء القبائل الطائفية يضخم الأرقام لبث الخوف الأقلوي في نفوس أفراد جماعته، ومن ثم ينصب نفسه كحام لهم. لعبة قديمة قدم لعبة توطين الفلسطينيين، التي لا تزال تطل برأسها من حين إلى آخر. إن اللاجئين السوريين يشكلون فرصة لاقتصادنا، حيث توضع قوى عاملة في تصرف قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة، وهي لا تنافس اللبنانيين إطلاقاً، إلا عندما تُخالَف القوانين، فيجرى استخدام اللاجئين بطرق غير شرعية، وتغض أجهزة الدولة المعنية الطرف عن مخالفة بعضهم واجب تسجيل المؤسسات والأعمال التي يقيمونها على الأراضي اللبنانية. ليس الحل بإرجاع اللاجئين من حيث أتوا، إنما بجعل القوانين ذاتها التي يطبقها اللبنانيون تسري عليهم. ولا توطين، كما قال الدستور! إنَّ الدول التي استقبلت الوافدين نعمت بنمو اقتصادي مذهل، من دبي إلى أستراليا وكندا وجميع دول الأميركيتين. نعم، وضع لبنان خاص، تماماً كما لكل من هذه الدول وضعها الخاص.
الجميع يتنبّأ بانهيار اقتصادي، وهذه النغمة تطفو كثيراً على سطح التحليلات السطحية، ومن ثم تختفي لوقت قصير لتعود فتظهر مجدداً. منذ عشرات السنين وحتى اليوم، لم نعتد بعد هذه التوقعات التشاؤمية، التي لا تستند إلى وقائع احصائية ثابتة، ولم تترجم فعلياً في أي وقت، حتى بتنا نخشى أن تصبح من النبوءات التي تؤدي إلى تحقيق ذاتها. كلا، ليس اقتصادنا في وضع كارثي، فهو، بالرغم من علل ßÈíÑÉ نعرفها جيداً، وعلل أخرى كثيرة، مزمنة، غير ظاهرة للجمهور، لا يزال يسجل نمواً مقبولاً (1,8 بالمئة تقديرياً لعام 2016) في حين أن الجميع يتحدث عن تراجع حاد. إن نمونا الاقتصادي لا يختلف عن معدل الدول الصغيرة (1,3 بالمئة عام 2016) ومعدل منطقة اليورو (1,8 بالمئة) والولايات المتحدة (1,6بالمئة) وكندا (1,5 بالمئة). وإذا قارنا، بتجرد إحصائي، إنتاجية الاقتصاد بما كانت عليه منذ عشر سنوات مثلاً، لوجدنا فارقاً إيجابياً كبيراً في الإنتاج الصناعي، والزراعي، والخدماتي، والمالي، والتجاري، ولوجدنا قطاعات محددة تواجه صعوبات، خصوصاً تلك المعتمدة على السياحة الخليجية كالفنادق الفارهة والشقق السكنية المليونية، وتجارة البضائع الفاخرة. وإذا قارنا معدل المستوى المعيشي عند اللبنانيين، ما عدا الذين هم في شريحة الفقر المدقع، سنجد نمواً ملحوظاً على هذا الصعيد. على المعنيين في القطاعين العام والخاص أن يكفوا عن التذمر الدائم، وأن يوجهوا اهتمامهم إلى الفئات التي تعاني العوز، ولا تعوزهم الإنسانية للقيام بذلك. في غياب الإصلاح الذي ينشده الجميع، ولكن يتجنبه الجميع أيضاً تفادياً لخسارة المكاسب، اتركوا ÓãÚÉ اقتصادنا بحالها، فالمطلوب تحفيز الهمم لا نشر الإحباط.
باحث وناشر في السياسة والاقتصاد |