الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ١٦, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
هل هناك حقاً «عنصرية» لبنانية؟ - حسن شامي
سأبدأ بحادثة بسيطة روتها لي قبل أعوام صديقتنا هدى أيوب التي علّمت وأشرفت على تعليم اللغة العربية في معهد المعلمين العالي في باريس، وترجمت من العربية إلى الفرنسية نصوصاً أدبية وروائية، ورحلت عن هذه الدنيا قبل شهر تقريباً. كانت أيوب في زيارة صيفية لبلدها لبنان واستقلت سيارة أجرة من بلدتها المارونية في شمال لبنان إلى بيروت. كان السائق أدار الراديو واتفق أن البرنامج الإذاعي كان يتحدّث عن الطائرة التي تحطمت أثناء عملية الإقلاع في مطار إفريقي وقضى عشرات اللبنانيين في الحادثة.

كان الضحايا، بطبيعة حال الهجرة اللبنانية إلى أفريقيا، من طوائف مختلفة. كان السائق اطمأن، بعد محادثة قصيرة واستكشافية، إلى أنه وزبونته ينتميان إلى طائفة بعينها وينعمان بالتالي بالهوية المشتركة التي تسخو بها الأحضان الدافئة للطائفة. طمأنينة السائق كانت عابرة جداً. فعندما راح الراديو يعلن بالتفصيل أسماء الضحايا الكاشـفة هوياتهم المفترضة أطلق العنان لتعليقات مقيتة تستسيغ موت بشر معينين وتتحسّر على موت أبناء طائفته.

لم يأتِ إلى بال السائق أن زبونته شربت من ماء غيمة أو غيوم أخرى، منذ أن كانت في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، حيث وفّرت البيئة اليسارية والليبرالية قوتاً لنزوع أمثالنا إلى اعتناق مذهب إنساني أكثر رحابةً وانفتاحاً من المرعى الدافئ للجماعة التي نتحدر منها. ولما كانت هدى أيوب مرهفة الذكاء العاطفي والتأثّر وإنسانية جداً وتلتمع الدموع في عينيها كلما تحدثت عن عذابات ومصائر كبرى لأفراد أو شعوب، فإنها لم تتحمّل تعليقات السائق المبتذلة وطلبت منه أن «ينزّلها» بعد أن كالت له التوبيخات والتقريعات.

هل من المناسب أن نطلق صفة العنصرية على تعبيرات هذا السائق الطائفي جداً والمثقل بنزعة مركزية تجد ما يعادلها لدى الطوائف الأخرى والمنافسة؟

عندي أيضاً صديق انتحر في العام الثاني من الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة والمتشعّبة. كان مناضلاً في صفوف اليسار والمقاومة الفلسطينية منذ الدراسة في كلية العلوم. وعندما اقتحمت القوات المشتركة الفلسطينية والوطنية بلدات مسيحية في جبل صنين، تحديداً بلدة عينطورة، ذهب إلى هناك بعد فترة قصيرة للمشاركة في النضال. لكنه لم يمكث طويلاً وأخبرني ذات مساء بتأثّر كبير وفي جلسة أرادها مغلقة، أنه لم يتحمل حصول سرقات لبيوت مسيحية، خصوصاً أنّ خريطة فلسطين كانت لا تزال معلّقة على جدران بعضها. دخل صاحبي في حال انطواء أرجح أنّها لا تعود فقط إلى نفوره من ممارسات غير إنسانية، وفي لحظة يأس شديد أطلق النار على نفسه.

هناك أيضاً شابّ كبر في أحد الأحياء الفقيرة شرق بيروت أصرّ على الذهاب من قريته الجنوبية للمشاركة في النضال في الجبل. وعندما عاد بعد أسبوع من البيت الفاخر الذي اتخذته قيادة المنطقة الفلسطينية مركزاً محروساً ومصاناً بعناية كبيرة، علمنا أن الشاب سرق خلسة صحنين وملعقتين وعوقب في قريته على ما فعل.

هل من المناسب في الحالتين المذكورتين أن نصف بالعنصرية هذه الرغبة في الاستباحة والسلب، سواء كانت عارية أم ملجومة نسبياً وغير قابلة للتعميم؟

في جعبة اللبنانيين الكثير من الحكايات المماثلة وبعضها أفظع بكثير من الأمثلة التي قدّمناها. وفي مقدم هذه الفظائع سلوكات الخطف والقتل على الهوية.

مناسبة هذا الحديث تتعلق بالسجال الذي اندلع في لبنان في وسائل الإعلام ومواقع التواصل حول «العنصرية» اللبنانية، بعد وفاة أربعة من النازحين السوريين كانوا في عداد عشرات اعتقلتهم قوات الجيش اللبناني بعد مداهمة مخيمين للنازحين في أطراف بلدة عرسال وحصول تفجيرات انتحارية أودت بحياة مدنيين وإصابة عدد من الجنود بجروح بعضها طفيف وبعضها بليغ.

صحيح أن السجال طاول سلوك الجيش وتبريرات قيادته عبر بيان مقتضب للتقليل من أهمية الحادثة، مما أحدث شرخاً في صورة الإجماع الوطني حول دور المؤسسة العسكرية وموقعها كراعية للإطار الأمني والسيادي المشترك والجامع في بلد تتنازعه حسابات الطوائف وصراعاتها. غير أن السجال لم يقتصر على مسألة إجراء تحقيق لائق لكشف ملابسات ما حصل. فقد رأى البعض بحق أن هذا التحقيق لا يلبي فقط حاجة «مدنية» إلى الشفافية وتثبيت المعايير القانونية في عمل المؤسسات العامة، بل يخدم كذلك صورة الجيش الوطني وسمعته وأداءه خصوصاً بعد انتهاء حقبة الوصاية السورية.

انتقل السجال بسرعة إلى نظرة فئات عريضة من اللبنانيين إلى النازحين السوريين ومن ثم إلى الفلسطينيين. ويمكننا أن نضيف إلى اللائحة سلوك ونظرة الكثير من اللبنانيين إلى الخادمات والعمال الأجانب عموماً. بل حتى هناك من يعتبر أن الطائفية واستئناس الجماعة بنمط العيش الأهلي المغلق هما أصلاً ضرب من ضروب العنصرية. على هذا النحو تصبح العنصرية عنواناً وصفة جاهزين لسلوكات وتعبيرات لا يربط بينها سوى البشاعة وادعاء أرجحية تجيز الاستعلاء والاستخفاف بحياة الآخرين.

والحق أنّ استخدام صفة العنصرية كيفما اتفق وإسقاطها على حالات شديدة التباين من حيث الحمولة والاعتبارات هو ضرب من السهولة البلاغية المريحة. وهذا ما يُفقر مفهوم العنصرية ويجعله بلا قوام حقيقي في التاريخ والثقافة والاجتماع ما دام يغطي عملياً كل السلوكات السيئة والسلبية حيال الآخرين. قد يصلح هذا الخلط بين المستويات للائذين بصورة مريحة أخلاقياً عن العيش في أثير إنسانية مجردة. الواقع البشري وتشكل الجماعات التاريخية في دول وأوطان ومجموعات مصالح أكثر تعقيداً بكثير. فالتمييز والحرص على رسم الحدود، الفعلية والرمزية في آن، وتثبيت الهرمية والتراتبية والاعتصام بالأنوية المركزية هي من السمات البارزة لكل المجتمعات. ما نقوله هو دعوة إلى مقاربة الأمور في منظار تاريخي وسوسيولوجي عقلاني، لا لتبريره بل على العكس لدحضه وتجاوزه بطريقة أكثر واقعية. إذا لم نفعل ذلك سيكون علينا أن نضع في سلة واحدة أشكالاً من التمييز ترقى إلى أثينا والمدينة - الدولة التي تفصل بين مواطنيها الأحرار وبين الآخرين الموصوفين بالتوحش والبربرية، ونضع معها التجارب الكولونيالية والعلاقة بين المسلمين وأهل الذمة والعلاقة بين المدن والأرياف وبين الخاصة والعامة... هناك تفاهات وتشاوفات لا تمتلك التماسك والصلابة العقائديين للعنصرية. فالحرية تنتج تفاهاتها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة