"ما هو الشعب؟ كل شيء، ماذا كان حتى الآن في النظام السياسي؟ لا شيء". (الأب سييس، 1789قبيل اندلاع الثورة الفرنسية)
نعلن وفاة الإدارة العامة في لبنان. طبعاً، هناك مؤسسات عامة، ونفقات، وموظفون يتكاثرون، وسلسلة رواتب وأجور، إلا أن مجمل الموظفين، بالأخص في المراتب الإدارية العليا، يدينون بمراكزهم ووجاهتهم لسياسيين محدّدين. يضع هؤلاء الموظفون ولاءهم في خدمة السياسيين الذين أتوا بهم، ويعملون لمصالح هؤلاء السياسية والشخصية، وليس للمصلحة العامة. هذا واقع يتفشى في لبنان منذ انتهاء الحرب في أوائل التسعينات من القرن الماضي.
المواطن يعرف هذا ويعيشه، ويرى عفوياً في كل موظف في مرتبة كبرى وجهاً سياسياً محدّداً، مع كل قوة وحصانة ذلك السياسي. الإدارة العامة اللبنانية أصبحت بالدرجة الأولى مجموعة موظفين يعتاشون من أموال عامة لخدمة مصالح سياسية خاصة. أما كون هذا الواقع قد أصبح أمراً طبيعياً كالطقس فليس سوى تأكيد لظاهرة تدجين عقل المواطن اللبناني وإرادته.
تصوّروا روعة وغنى ما يوفّره القطاع العام لكل سياسي "كبير" في لبنان. فلهذا السياسي القدرة والسلطة على منح الوظائف والرواتب العالية لأتباعه ومناصريه، وليس من الضروري لبعض هؤلاء حتى أن يعمل، فيربح ولاءهم وأرواحهم (بالروح، بالدم، نفديك يا ...) كما ولاء أفراد عائلاتهم، له ولأولاده لعقود، وكل هذا بأموال غيره من ضرائب وديون يفرضها هو إنما يدفعها المواطن. والأجمل أن لا قوة ممانعة تواجه ولا حتى مساءلة، بل مهادنة من قِبل المواطنين وكل المؤسسات خارج السلطة من مهنية أو إعلامية.
الفساد يخاف الضوء. لذلك، وخلافاً للقانون، لا تنشر المؤسسات العامة، وهي تابعة حكماً للإدارة العامة، حساباتها منذ سنوات عديدة. لا نعرف شيئاً عن الأوضاع المالية لكل المؤسسات العامة وشبه العامة الكبيرة. نشير تحديداً إلى مصرف لبنان الذي لا ينشر حساب الأرباح والخسائر، فعلياً الخسائر، منذ العام 2002، وإلى شركة كهرباء لبنان، وكازينو لبنان، وشركة إنترا، وشركة طيران الميدل إيست.
ولكل من هذه الشركات سيّدها السياسي. الشركات الثلاث الأخيرة شركات خاصة قانوناً، إلا أنها فعلياً شركات عامة (شركة الميدل إيست يملكها مصرف لبنان) تخضع بتعييناتها وقراراتها الهامة لمصرف لبنان وللأسياد السياسيين. لا أعتقد أن أياً من المسؤولين يعرف شيئاً عن الحسابات المدقّقة، أي الوضع المالي الحقيقي، لأي من تلك الشركات. هذا في حال وجود تلك حسابات. وبالتأكيد، الخسارات لا تُدفع من أموال الأسياد الخاصة بل من الأموال العامة.
لذلك، لمَ المبالاة؟ لا نعرف كمواطنين، أي المالكين الفعليين لتلك الشركات وأصحاب الحق الأصلي، أي شيء عن الوضع المالي لتلك الشركات لأنها لا تنشر أي معلومات عنه. لكننا ندعو كل من يهتم بالشأن العام، بالأخص الحركات المدنية والسياسية الفاعلة، ألاّ تتجاهل أهمية المطالبة بحسابات المؤسسات العامة إذ فيها تتجلّى النتائج الفعلية لممارسات السياسيين مقارنة بشعاراتهم الرنانة. لقد أدّى تصرّف السياسيين إلى تضخّم غير مسبوق في الحجم البشري للإدارة العامة.
وهنا أيضاً لا تُنشر أرقام رسمية عن العاملين في القطاع العام، أي في كل الوزارات والمؤسسات العامة الرسمية والبلديات. هذا أمر مستغرب جداً. تقديراتنا المستندة إلى أرقام رسمية غير منشورة تدلّ إلى 200 ألف تقريباً كعدد إجمالي في أواخر عام 2013، و225 ألفاً على الأقل في بداية عام 2017. أي أن نسبة العاملين في القطاع العام حالياً تمثّل على الأقل %20 من مجمل العمالة اللبنانية، في حين أن هذه النسبة كانت %10 تقريباً قبيل الحرب في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وحوالي %12 في أوائل القرن الحالي. ونقدّر بأن أكثر من نصف العاملين حالياً في القطاع العام يدينون بأرزاقهم ومناعتهم لسياسي محدّد يبادلونه عملهم وولاءهم.
الحدثان التاليان يحملان أهمية بالغة من حيث الحجم والدلالة إلى مدى انحلال الإدارة العامة، واستطراداً النظام السياسي اللبناني. منذ بضعة أشهر وزّع مصرف لبنان على عدد صغير فقط من المصارف، تحت غطاء ما يحلو تسميته ﺑ"الهندسة المالية"، أكثر من 5 مليارات دولار "من دون مقابل" حسب تعبير صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن لبنان. هل سمعتم حتى سؤالاً رسمياً واحداً عن هبة اﻟ 5 مليارات دولار هذه؟ لا بل، أُطلق "فقهاء السلطان" في كل الوسائل الإعلامية تقريباً للدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه لا مالياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً، أو تحت أي مسمّى. وأصبح، حسب قول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، قول الحقيقة خارج جوقات الإطراء والإطناب يبدو كأنه شيء آتٍ من المريخ. الحدث الثاني هو إقرار مجلس الوزراء مرسومي الأنشطة البترولية، سبقه اعتماد لائحة شركات مؤهلة منها على الأقل اثنتان فعلياً وهميتان وبرأسمال لكل منهما بحوالي ألف دولار فقط. تخوّل هذه المراسيم توقيع اتفاقات بمئات المليارات من الدولارات لفترة طويلة تصل إلى 30 عاماً على الأقل، والتوقيع سيتمّ خلال شهر تشرين الثاني المقبل حسب قول المسؤولين. وإنجاز توقيع تلك العقود هو أهم هدف بدون منازع للسلطة الحالية. لقد بقيت هذه المراسيم سرّية لأكثر من ثلاث سنوات لم يكن خلالها بمقدور أي مواطن أن يطلع عليها. حتى المجلس النيابي لم يطلع عليها. كانت جلسة إقرار تلك المراسيم من تباشير العهد الجديد، وكانت جلسة سريعة الموافقة، اشتكى فيها عدد من الوزراء من عدم القدرة على استيعاب مئات الصفحات من التفاصيل القانونية والتقنية خلال الأيام القليلة المتاحة في حينه، ومن رفض طلب منحهم بضعة أيام إضافية للاطلاع على التفاصيل واستيعابها. حتى القوات اللبنانية، بصفتها شريكاً جديداً في السلطة قادم بخطاب إصلاحي واعد، سقطت من خلال صمتها في امتحانها السياسي الأول في تلك الجلسة.
أوَليس من المستغرب فعلاً أن تختفي الشفافية عن كل مشروع ذي نفقة مالية كبيرة وتأخذ الموافقة عليه وتنفيذه مسارات غير عادية؟ هذا الأمر ينطبق على مشاريع الكهرباء، والنفط والغاز، والنفايات، والاتصالات، والطرق، والمياه، والسدود، والتعليم، والاستشفاء ...
كما أن معظم تلك المشاريع تنتهي عادة في دعاوى قضائية تخسرها الدولة. يقول رئيس دائرة المناقصات في التفتيش المركزي السيد جان العليّة، في حوار مع "النهار" (29-5-2017) أنه "... فُرض على ادارة المناقصات تشكيل لجان تضمّ أسماء عيّنتها مراجع وزارية رسمية لا يحق لها التدخل" وأن المناقصات الكبيرة تجري بمعزل عن إدارة المناقصات، وأن هذه الأخيرة تنظر في أقلّ بكثير من 5 في المئة من مجمل الإنفاق العام. هذه إدارة عامة تعيش في عالم خاص بها ولها، بدون ضوابط، وضد المصلحة العامة.
لقد أصبح من شبه المستحيل محاسبة أي موظف في الإدارة العامة لأن هذا يعني محاسبة السياسي - العرّاب الذي أتى بهذا الموظف وأصبح المسؤول الفعلي عنه. وطبعاً لا يمكننا تصور محاسبة فعلية في لبنان لأن السياسي "الكبير" معصوم عن أي خطأ ويمثّل آلاف الناس إن لم يكن يمثّل ديناً أو مذهباً بكامله. ومن منكم يجرؤ على محاسبة من يمثّل ديناً أو مجموعة كبيرة من الناس تتلطى تحت سقف الدين أو القبيلة؟ هذا هو أصل الفساد في لبنان. ونجد من أكثر الأمور غرابة ترداد مسؤولين وسياسيين، بدون أي خجل، شعارات الحرب ضد الفساد. هل من المنطقي أن يحاسب السياسي نفسه؟
تحكمون بدون ثقة الناس، ومدّدتم لأنفسكم مرات عدة بدون تفويض منهم. تنفقون أموالهم وتستدينون باسمهم من دون حساب أو محاسبة، ولا تعيرون أي اهتمام لتلويث أرضهم ومياههم وهوائهم لأن لا تلوّث حيث تلجأون. تربطون النزاع في ما بينكم لتنصرفوا إلى تقاسم صفقات بمليارات الدولارات من أموال الناس، ولا يطالكم حتى سؤال عما تفعلون. خلافاً للقانون، لا تنشرون حسابات أو تقارير عن أعمالكم ولا أحد يحاسبكم لأنكم تفرضون في أجهزة الدولة الذين من المفترض أن يحاسبوكم. الدولة أصبحت ملكية خاصة تزرعون فيها أفراد عائلاتكم وأتباعكم، وتحصدون منها أموال الناس ومستقبلهم. لقد اقتحموا الباستيل لأسباب أقل من هذه بكثير.
كاتب وخبير اقتصادي |