الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ١٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الموصل ليست نهاية: واقع يزداد تأزماً - شفيق ناظم الغبرا
المعركة مع تنظيم «داعش» ليست المعركة الأخيرة وذلك بسبب طبيعة المشكلات التي أدت في الأساس إلى سقوط الموصل في ٢٠١٤ وبسبب طبيعة القضايا التي ستنتج من تدمير المدينة وتهجير أهلها. بالإمكان القول ما كان لهذه الظاهرة أن تبرز لولا سوء السياسة في العراق وسورية وبالطبع تشابه السياسات في الكثير من البلدان العربية. فقد برز «داعش» في الأساس من قلب التهميش السياسي والاجتماعي والثقافي والإنساني لفئات اجتماعية أساسية في العراق وسورية، كما برزت من جراء سياسات شبيهة في أقطار عربية عدة، هذا أصل المشكلة التي تتفاعل مع التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة أجاء من إسرائيل والصهيونية أم من الغرب أم من إيران.

لقد كلفت معركة تحرير الموصل والمستمرة منذ ثمانية شهور ما لا يقل عن خمسة عشرة ألف قتيل من الجيش العراقي ومن الحشد الشعبي والميليشيات المصاحبة، بينما لا يوجد إحصاء دقيق لعدد القتلى من عناصر «الدولة الإسلامية» ومن المدنيين العراقيين من سكان الموصل. قتلى المدنيين بالألوف، وقد لا يعرف الرقم، لكن الجروح التي ستنتج من معركة الموصل لن يكون بالإمكان التخفيف منها بلا عمل كبير وجهود ناضجة. قد تكون البداية أن يسمح بتحقيق دولي وذلك بسبب حجم الموت الذي انتشر بين المدنيين كثمن لتحرير الموصل. في أحياء الموصل دمار يذكر بدمار الحرب العالمية الثانية، بلا انتصارات الحرب الثانية وقدرتها على الحسم.

في الجوهر لم يتغير الكثير، فالحرب كر وفر، وهذا ما سيقع بين الدولة المركزية في بغداد وتنظيم «داعش» في الأطراف. فمن دون قدرة العراق على علاج مشكلة إعادة البناء وتأمين عودة الناس لتأسيس حياة طبيعية، سيستمر العنف. وبلا قدرة الدولة في العراق على بناء التوازن بين مكوناته الدينية والثقافية المختلفة (خصوصاً بين السنة والشيعة) سوف يستمر الاختلال الأمني. لنتذكر أنه أخذت القوات الأميركية أياماً معدودة للسيطرة على العراق بأكمله بينما أخذ الأمر عدة سنوات لاستعادة الموصل من داعش، هذا مؤشر لطبيعة ما يقع في الإقليم، كل شيء يزداد صعوبة، وثمن تحقيق تقدم أصبح خيالياً، والمدرسة العنيفة المكونة من ميليشيات ومجموعات عسكرية ليست نظامية تؤثر في المعادلات وقد تجاوزت مجرد تصنيف الإرهاب لمصلحة مشروع بناء دولة (مهما بدت متطرفة).

إن البيئة التي تسبح فيها قوى العنف في العراق وفي العالم العربي تضع الأساس لاستمرار ذات العنف في شكل جديد وحلة مختلفة. فبين سورية والعراق وبين داعش والأنظمة وجيوشها، يستمر الصراع الذي تؤججه حالة نقص العدالة والعزل وعمق التهميش المنتشر في الثقافة العربية السائدة في النظام السياسي.

سيبقى الاستبداد وما يرتبط به من طائفية وتمييز وعنصرية وطبقية وفساد وغياب المساءلة ومنع الحرية من أهم أسس العنف. وستستمر مدرسة العنف بتأثيرها ودورها، هذا لا يعني أن المدرسة العنيفة تسعى لبناء ديموقراطية وحرية ودولة عادلة، بل يعني أن بروزها مرتبط بعدم توافر مناخ الحوار والحرية والعدالة الاقتصادية، فمدارس الإرهاب في منطقتنا نتاج أزمة، لكنها تتحول أيضاً إلى أزمة، ولا حل لمناخ الصراع الدائر بلا مجتمع عربي ونظام عربي أكثر عصرية وانفتاحاً وأقل عصبية وتمييزاً بحق الآخرين. وما دام لم يصل العرب إلى النتيجة القائلة أن الاستبداد المقترن بالتدخل الخارجي هو أساس الأزمة، فتكرار الحروب الراهنة مستمر. في العالم العربي ثروات كبرى قادرة على إعادة بنائه، لكن البناء ليس ممكناً بطبقات وفئات مسؤولة عن ذات الحروب وسوء الإدارة والقيادة.

وفي العالم العربي ثروات كبيرة في جانب منه وفقر مدقع وحروب في جانب آخر من الإقليم، ففقراء العرب وأغنياؤهم يعيشون انفصاماً، هذا الجانب من المشكلة العربية ينتج حالة تشوه في الاقتصاد من المحيط للخليج. لن ينهض العالم العربي بلا تنمية متوارثة وأنظمة مساءلة. وهناك بنفس الوقت تناقض أكبر منه في الواقع العربي بين مالكي الثروة في كل دولة عربية وبين فقرائها ومهمشيها، وهذا التناقض يرتفع في الدول الأكبر حجماً والأكثر كثافة كما أنه يقضي على الطبقة الوسطى ويدمرها. لسبب أو آخر نفشل كعرب في حسن الإدارة ونفشل في توسط الاقتصاد وفي بناء أسس للعدالة بين الناس. ثقافتنا الراهنة تفتقد التعاطف مع الآخرين عندما يكونون في الجانب الآخر من النهر أو البحر أو الجغرافيا أو المدينة.

العرب في هذا الزمن من أكثر الشعوب معاناة، فهم مجردون من حقوق ثابتة تضمنها السياسة والدساتير. العرب اليوم يخشون من بعضهم البعض ويخشون من اتهامهم بولائهم وبمواطنتهم، بل قد يجد كل عربي مهما كان مؤثراً أنه بلا وطن أو أرض أو مكان بين ليلة وضحاها. لو راجعنا العقوبات المفروضة على العرب حول النقد والسياسة والفساد لوجدناها الأسوأ في المعمورة. كيف يتطور مجتمع لا يستطيع تناول مشكلاته ولا يستطيع نقد سياسييه ولا نقد نفسه.

لهذا يلجأ المواطن العربي للهجرة أو للصمت أو للانسحاب، تماماً كما انسحب السكان في زمن الشيوعية مما أدى إلى سقوطها في أواخر ثمانينات القرن العشرين. وهذا لا يكفي، فقطاع كبير من المجتمع العربي يهرب للدين بصفته صخرة النجاة ومكان الاختباء من سوء الواقع وتردي الحياة. ففي الأيديولوجية الدينية المعادية للنظام السياسي وسيلة للتعبير والاختلاف واكتساب الثقة المدعمة بالمقدس، وفي هذه الحال يهرب أفراد عديدون نحو العنف والفتك، ممارسين ما يعتبرونه عنفاً مضاداً لعنف الأنظمة والدول بسبب مصادرة حقوقهم وتعريضهم لظلم ممنهج وممأسس.

بعد فوات فرص عام ٢٠١١ الإصلاحية مع الربيع العربي وثوراته، دخل العرب الصراع المفتوح بين كل مكون والآخر وبين كل دولة والأخرى، لهذا تنشأ تحالفات جديدة ستنعكس على كل دولة عربية. وبما أن التاريخ لن يعود إلى الوراء وبما أن استعادة الديكتاتورية ونظام ما قبل ٢٠١١ كمشروع غير ممكن لا في العراق ولا في سورية ولا في غيرهما فالعرب سيزدادون عنفاً وتفككاً وذلك بسبب محاولات استعادة ما كان قائماً. المناطق المشتعلة في العالم العربي واضحة ومعروفة كالعراق وسورية وليبيا واليمن، لكن المناطق الشبه هادئة في دول عربية عدة تستمد الهدوء من جراء غياب البدائل وشدة القمع، لهذا فالاستقرار في عدد من المناطق العربية الكثيفة السكان ليس نابعاً من إجماع وشرعية وعدالة، بل من جراء قمع مضاعف وغياب الخيارات الممكنة. نحن نجلس على فوهة بركان.

لقد منيت المدارس الإصلاحية العربية ومدارس التغير السلمي بتراجع كبير (موقت) في السنوات الأربع الأخيرة. وما «داعش» وصعوده واستمراره وإمكان إعادة بروزه في شكل جديد إلا من تعبيرات هذه المرحلة التي تزداد عنفاً. إن السنوات الأربع المقبلة ستكون متأثرة بدور الرئيس ترامب الذي يتغذى على التناقضات بين الدول العربية. لكن أزمة العرب في ظل دخان الحروب تبقى أزمة عدالة وتخطيط، وأزمة حكومات غير خاضعة للمساءلة، وقيادات لا يمكن نقدها، واقتصاديات غير مناسبة للعصر، ومعارضين ونقاد غير قادرين على البقاء في أوطانهم وممارسة حريتهم.
 

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
الرئيس العراقي: الانتخابات النزيهة كفيلة بإنهاء النزيف
الرئيس العراقي: الانتخابات المقبلة مفصلية
«اجتثاث البعث» يطل برأسه قبل الانتخابات العراقية
الكاظمي يحذّر وزراءه من استغلال مناصبهم لأغراض انتخابية
الموازنة العراقية تدخل دائرة الجدل بعد شهر من إقرارها
مقالات ذات صلة
عن العراق المعذّب الذي زاره البابا - حازم صاغية
قادة العراق يتطلّعون إلى {عقد سياسي جديد}
المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي - حازم صاغية
هل أميركا صديقة الكاظمي؟ - روبرت فورد
العراق: تسوية على نار الوباء - سام منسى
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة