لم يكن من السهل على عربي عاش مناخ الستينات والسبعينات أن يفكّر أو يكتب أو يتكلّم من دون الخضوع الإرادي أو الضمني لمسلّمات تلك الفترة، حيث كانت شعارات الوحدة العربية الأزلية وقرب ســـقوط الإمبريالية وتحرير فلسطين واستعادة العرب للريادة العالمــــية وغيرها كثـــيرة، وكانت محـــدّدات للثـــقافة السائدة. ولم يعمّ الإدراك إلاّ بعد فترة أنها كانت مجرّد شعارات فارغة وغير قابلة للتحقيق، وأنّ الذين كانوا قائمين على صناعتها وترويجها هم أقلّ الناس إيماناً بها، وإنما كانت أدوات بأيديهم للهيمنة على الجماهير وعزلها عن العالم وجعلها تعيش في عالم العواطف وتفرغ طاقتها في الزيف والأوهام.
ثمة اليوم منذ الثورات العربية حالة من الشعبوية الجديدة تشبه ذاك المناخ الذي ظنّنا أننا تخلصنا منه إلى الأبد. وجاءت تطورات أخيرة لتبرهن العكس، حيث يصرّ البعض على أنّ بعض النزاعات التي نعيش هي بين أنصار الديكتاتورية وأنصار الثورة، مثلما كان يقال سابقاً أنّ من لم يستسلم لأوهام الشعبوية القومية وشعاراتها فهو الرجعي العميل. ومنذ بداية تلك الثورات، سعى بعض المثقفين الجادّين إلى محاولة الفهم والتحليل، وإلى محاولة التوجيه بما يخدم المصالح الحقيقية للشعوب، لكن في الغالب لم يحظ هؤلاء بلقب المثقفين الثوريين ولم يستمع لكلامهم، وإنما نشأت طائفة طفيلية احتلّت المساحات الثقافية من دون كفاءة ثقافية حقيقية، سلاحها قدر كبير من التبجح والصلف والقدرة على التزييف والإغراء ورفع الصوت بالصراخ والعويل.
صحيح أنّ دور المثقف عموماً في هذه الثورات كان محدوداً، ويعود ذلك لأسباب عميقة لا يمكن التحكم فيها، منها التحولات التي شهدتها قنوات الممارسة الثقافية وانتقلت بسرعة إلى الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، وخضعت لمنطق السرعة في تقبّل الأحداث والحكم عليها، وهو غير منطق المثقف المتعوّد على النقد والتمحيص. الثقافة «الفايسبوكية» و «التويترية» لها خصائصها، وتكيّفت مع وتيرة الأحداث والوقائع، وهذا أمر مفهوم في فترات التحوّلات المتسارعة، لكنها أيضاً ثقافة لا نقدية، ثقافة انطباعية وذرية، غير قادرة على الانتقال من التفاصيل المبعثرة إلى رؤية جامعة، وليس لها أدوات التأكد من المعلومة ولا المسافة الموضوعية الضرورية لتحليلها.
وأصبحت الثقافة بهذا الشكل أكثر ديموقراطية أيضاً، وأصبح مئات الآلاف من مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي يساهمون في تحليل الوقائع اليومية ولا ينتظرون، بل لا يعترفون أيضاً بالثقافة «الكلاسيكية» المرتبطة بالكتاب والصحيفة، وهذا أمر لا يمكن استنكاره لأنه يعكس طبيعة الأحداث من جهة، ولأنه أيضاً، من جهة أخرى، نتيجة من نتائج الثورة الرقمية في العالم. وبما أننا نواجه وضعاً جديداً، فمن الخطأ أن نحكم عليه بالسلب أو الإيجاب، فقد ينتهي إلى حجب النخب الثقافية التقليدية والقضاء على طموح إنشاء المعنى الجامع بواسطة المقارنة والتحليل على المدى البعيد، والقضاء على الكتاب والصحيفة لمصلحة المنتجات الاستهلاكية السريعة التي توفرها الثورة الرقمية، أو قد ينتهي إلى ضرب من التوازن بين هذا وذاك يعدّل كلّ منهما ويثريه.
كلّ هذا لا يبرّر ولا يفسّر الهيمنة التي تسعى إلى بسطها على الفعل الثقافي كائنات طفيلية بدأت في البروز مع الثورات العربية، لا تنتمي إلى الثقافة بالمعنى الكلاسيكي، يعيش أصحابها في الغالب في رفاه وأمان في عواصم لم تصطل بمعاناة الثورات وآفاتها، نصبوا أنفسهم الناطقين باسم تلك الثورات والقائمين على أمرها. لم تتغيّر نبرات كلامهم من اليوم الأوّل الذي شهد احتراق الشاب البوعزيزي إلى اليوم، فهم غير معنيّين بالنتيجة: أربع حالات فشل على خمس، دمار شامل في ثلاثة بلدان، مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمهجّرين، خسائر ستطلب عقوداً طويلة لاستدراكها، هذا كله ليس مهمّاً لأنصار الثورة حتى الدمار الشامل، ما داموا ينعمون بالإقامات السخية في المدن الآمنة، العربية منها والغربية، وما دامت الثورة أصبحت لهم نشاطاً للارتزاق والاكتساب، وأدوارهم الثورجية حولتهم من الظل إلى دوائر الأضواء المشبوهة والمقامة على الجثث والدماء، حيث تستقبلك كل يوم المذيعة الجميلة التي أنفقت ساعات في التجميل لتسرد لك بابتسامتها المغرية أخبار القتل والدمار في مدن العرب الأخرى، يتلوها المحلّلون الذين وهبوا المعرفة الكاملة والشاملة والقدرة على تفسير كلّ شيء.
من أنتج هذا الرهط الجديد من الشعبويّين؟ من مكّن سيطرته على عقول العرب؟ من سمح له بأن يدفع الشعوب إلى تدمير بلدانها بأيديها؟ من جعله يفجّر النزاعات بين مكوّنات اجتماعية تعايشت منذ مئات السنين؟
مثلما اكتشفنا سابقاً أنّ الثورجية العربية لعصر الستينات لم تكن تعبيرات تلقائية عن تطلعات الشعوب العربية، سنكتشف أيضاً أنّ الثورجية الراهنة، بشعبويتها المقيتة ونهمها الدموي، ركبت موجة الثورات العربية للهدم لا للدعم، وأفرغت هذه الثورات من غاياتها الأصلية ومحتوياتها الإيجابية لتحوّلها إلى مسلسلات قتل ودمار، وأخطر الدمار ذاك الذي يلحق بالعقول فيجعلها عدمية التفكير والسلوك.
لقد كفت بضع سنوات لإطلاق عملية تدمير ذاتي تكاد تكون غير مسبوقة في التاريخ، وخسائر فاقت ما حصل في كلّ الحروب والمواجهات الخارجية. لقد ضربت الشعبوية جسم العقل العربي مجدّداً، وبأكثر مما حصل في الستينات والسبعينات، وكانت أفضل شاهد على المثل القائل «يصنع الجاهل بنفسه ما لا يصنعه به عدوّه». |