في الدين، يبدو تمييز «المحكم» عن «المتشابه» اجتهاداً بشرياً، وستتعدد قوائم المحكم والمتشابه بعدد من يقرأون النص... والنتيجة أن المحكم هو ما تراه محكماً والمتشابه هو ما تراه متشابهاً، والقارئ بمستوى ذكائه وخبراته وإيمانه (يمكن أن يكون القارئ غير مؤمن) وتحيزاته وأهوائه، يحدد المحكم والمتشابه. وفي النزاع والخلاف، ستحسم المسألة سلطة بشرية، مجموعة من الناس تغلبوا بالقوة أو انتخبوا أو أحرزوا الثقة والاتباع.
يغلب على التاريخ العربي والإسلامي القهر والغلبة. العادلون والفاشلون والعلماء والجهلة والمجهولون كلهم جاؤوا بالغلبة والقهر. وبطبيعة الحال، فإن التطبيقات (الشريعة) هي منتج سلطوي قهري سواء كان ذلك بأمر مباشر أو توازن في السلطات والقوى أو تفويض وتقاسم للسلطة والموارد. لكن، في جميع الأحوال فإن ما لدينا من تراث في الفقه والتفسير والحديث والأصول (الشريعة) هو ما أنتج في ظل السلطة، بتفويض منها أو بمشاركتها أو بإقرار منها، أو ضدها بالسر أو المواجهة معها. وفي جميع الأحوال فهو منتج بشري.
في تداعي المؤسسة الهرمية بفعل الشبكية، كان في مقدور جماعات كثيرة أن تصعد وتنازع المؤسسة الدينية الرسمية الشرعية، وصارت المؤسسات والجماعات تتنافس على الدين حتى غمرتنا بالكوارث، ولم يعد من مخرج سوى ردّ فهم الدين والشأن الديني إلى الأفراد المؤمنين على قدم المساواة بينهم! إنه مسألة فردية خالصة. وما يحتاج إلى تطبيق عملي مرده إلى سلطة بشرية منتخبة يحاسبها المنتخبون، يعزلونها أو يفوضونها، مع الاعتبار التام بأن الشريعة وتطبيقها مسألة بشرية عقلانية قابلة لأن تكون خطأ أو صواباً، قابلة للمراجعة، يمكن أن تكون كارثة مثل كل الكوارث التي تنشئها السلطات والمؤسسات، المديونية مثلاً أو الخلل في البورصة أو الإنفاق العام المتحيز والفاسد، ويمكن أن تكون إنجازاً عظيماً جميلاً، مثل الحريات والحقوق والكرامة والعدالة.
في ذلك كله: الفساد أو النزاهة، الفشل أو النجاح، العدالة أو الاستبداد يمكن أن يكون إسلامياً أو غير إسلامي... مع التحفظ عن مصطلح إسلامي، فهو غير محدد ويكاد يكون لا معنى له!
هكذا تعيدنا «الشبكية الدينية» إلى الإرجائية، وهي الحالة التي كانت قائمة قبل صناعة الورق، وترد شأن الدين إلى الفرد وإرجاء الحكم بالخطأ أو الصواب إلى الله، والحال أن الشبكية تستعيد حالات كثيرة كانت قائمة قبل الدولة السلطوية المركزية في الحياة والفكر والموارد والحكم والسياسة، وفي ذلك فإن القارئ ينتج النص أو يعيد إنتاجه، وما من نص إلا ويتعدد فهمه بعدد من يقرأونه! كانت صناعة الورق والطباعة توحد الفهم وتنظمه، وقبل ذلك، ثم في الشبكية، صار «الخطاب» مفتوحاً ولا نهائياً، وكما حلّت ويكيبيديا محل الموسوعات الرصينة، فإن الفردية تحل محل المؤسسة الدينية العميقة والراسخة (كانت عميقة وراسخة).
الذين قالوا إنها الفوضى، فلا يمكن فهم النص إلا بمعونة من يعلم، صنعوا فوضى أكبر بكثير من الفردية واللانهائية في قراءة النص (القراءة بمعنى فهمه وتنزيله في الخطاب). فقد صنعت هذه التبعية أو الوصاية كوارث هائلة. المذاهب والفرق المتصارعة حتى الهلاك هي في الحقيقة استجابة لتفويض البشر بفهم النص وتأويله، والتأله وعبادة البشر، فقد حلّ هؤلاء الوسطاء والأوصياء محل الله، والتطرف والغلو هو استجابة لاتباع فئة من الناس في فهم النصوص وتطبيقها، ولو كان كل مؤمن يفهم النص وحده وعلى مسؤوليته، فإنه حتى عندما يتبع من يظن أنه أعلم منه فإنه اتباع ليس على سبيل اليقين، لكنه اتباع على سبيل الشعور والاطمئنان على مسؤوليته الفردية. فكل فرد مسؤول عن فهمه وإيمانه وعمله وحده.
هذه الفوضى الدينية والعبثية غير المتخيلة في فهم النصوص وتطبيقها مردها إلى المؤسسة الدينية بما هي الاتّباع والاعتقاد بالوسطاء والأوصياء على النصوص وليس الفردية والمسؤولية الفردية حصراً في فهم النصوص وتطبيقها...
* كاتب أردني |