تفيض الأخبار والمعلومات التي ترد في وسائل الإعلام بما يستدل به على فساد آمن منتشر، فقد حذره أو تحول إلى حالة عامة متقبلة ومتواطأ عليها، أو أنها أخبار بسبب تكرارها وكثرتها لم تعد تثير اهتمام الرأي العام المفترض أن لديه حساسية تجاه الفساد، أو أن حالة الإغراق في الأخبار والمعلومات والتي يغلب عليها في شبكات التواصل الشخصنة وفقدان الصدقية جعلت الأخبار والقضايا المهمة والمفترض أن تشغل المواطنين وتدفعهم للتأثير والمواجهة تمرّ في صمت وهدوء من دون أن تحرك ساكناً لدى الأفراد والمجتمعات.
ولم تستفد المجتمعات من الفرص الممكنة في النشر في التأثير باتجاه أهدافها ومصالحها، بل إنها تفقد وجهتها في العمل من خلال وسائل الإعلام، وتكاد تتساوى التحديات بالنسبة الى العاملين في الإصلاح في حالتي التنظيم السلطوي المسيطر على الإعلام أو التعويم والإغراق السائد اليوم في ظل الشبكية، ففي حين كان الناشطون يستطيعون إنشاء حالة من التأثير والضغط بسبب تسرب خبر أو معلومة لم يعودوا قادرين اليوم على لفت الاهتمام على رغم الانتشار الواسع للأخبار والمعلومات المفترض أن تساعدهم في الحشد والتأثير. وفي حالة أكثر صدماً وتحدياً للناس فإن الفساد صار يقدم نفسه في جرأة ووضوح كأنما يسعى إلى مزيد من التجاهل المتعمد لمواقف المجتمعات ومصالحها، وفي تحدٍّ ساخر من القوانين وقيم العدالة التي تواضعت عليها الدول والمجتمعات.
يمكن أن تقرأ كل يوم في وسائل الإعلام أخباراً يجري التعامل معها مثل النشرة الجوية أو حركة الطائرات القادمة والمغادرة عن العفو عن القتلة وتوقيع عقود معهم ومعاملات تجارية واقتصادية بأرقام كبيرة جداً، ونقض أحكام بالسجن على مغتصبين بوثائق رسمية جديدة تستخرج من بلاد يمكن أن توفر أي وثائق يحتاج إليها الإنسان وتشكل أدلة تصلح لنقض أحكام قضائية، أو خسارة نقابة للمحامين لقضية مالية كبرى مع شركة تأمين بسبب إهمال محامي النقابة!
وفي مستوى آخر، وإن كان أقل صدمة، يمكن ببساطة الاستنتاج عن مصير المعونات والمنح التي تقدم إلى منظمات ومؤسسات تشي تشكيلتها وتسميتها بأنها صممت لابتلاع الأموال التي تقدمها دول ومنظمات غنية إلى الدول الفقيرة، مثل مؤسسات تنموية واجتماعية تكاد تكون وهمية أو مفتعلة أو مكررة لا يبدو لها أثر حقيقي يذكر في المجال الذي تدعيه، أو جمعيات ومنظمات خيرية واجتماعية لا يتغير أبداً رؤساء وأعضاء مجالس إدارتها، ولا يزيد كثيراً عدد أعضاء هيئاتها العمومية عن عدد أعضاء مجالس إدارتها، وتظهر الأسماء مدى القرابة والمصاهرة والصداقة بين أعضائها، لدرجة شجعت أحد المعلقين الظرفاء أن يطلق عليها وصف مؤسسات وبرامج الحموات والكنّات، أو مؤسسات اقتصادية تسجل ربحية أو غير ربحية، ومراكز دراسات ليست سوى مؤسسات شخص واحد، ليس لها عمل في السوق والمجتمعات سوى إنفاق أموال المنح الحكومية أو الخارجية، ولا أثر حقيقياً لها سوى حفلات الاستقبال والعلاقات العامة في المؤتمرات الباذخة المسماة مؤتمرات وندوات، ولا تجد حاجة حتى لأجل التمويه على الأقل وصد عين الحاسدين أن تغير المدعوين والمشاركين الذين يكونون هم أنفسهم في كل مؤتمر أو ندوة سواء كانت عن التطرف والإرهاب أو حماية البيئة أو تطوير زراعة النخيل او حقوق الإنسان أو تأهيل المعوقين أو مساعدة المكفوفين على الرسم التشكيلي! أو السياحة الفكرية لأجل المؤتمرات والندوات في كل أنحاء العالم وفي جميع المجالات والتخصصات.
ثم يقدم المسؤولون والناشطون إنجازاتهم وقصص النجاح في مؤتمرات ومقابلات صحافية وعاصفة من الأخبار في الصحف والتدوينات في شبكات التواصل بلا حاجة لأدنى مهارة في التزوير لتبدو على الأقل تلامس آمال وإعجاب الجماهير، أو رغبة في إقناعنا بقدر النجاح والإنجاز، وكأن الهدف الحقيقي للقصف الإعلامي ليس عقول وأفكار الناس، لكن احتقارهم والاستخفاف بهم، وكأن ذلك الاحتقار مكافأة يحصلون عليها.
* كاتب أردني |