في الإقليم العربي حالة متقدمة من القساوة، خصوصاً عندما يقع الصراع بين العرب، فهم يطلقون النيران ويقصفون بالكلمات والمدافع وكأنهم في نهاية التاريخ. يقع ذلك بينما يسبح بهم الخيال في حجم شرور العربي الشبيه. معارك العرب مع العرب هي الأشرس بحكم التداخل والاعتماد المتبادل، وثمن ذلك هو الأكبر على الناس والأفراد. الاختلاف بين العرب يتحول بأسرع ما يكون إلى حالة اجتثاث شاملة. فبسبب العاطفة الجياشة والغشاوة التي تسيطر على العقول وبفضل رد الفعل القطعي تتعمق بينهم الحالة الصفرية الهادفة إلى إلغاء الطرف الآخر. لهذا يصبح إعلان تصفية تيار سياسي، حركة شعبية، دولة، طائفة، معارضة سياسية أو حتى تغيير حدود وقطيعة أمراً طبيعياً في الثقافة السائدة. بفضل روح الاجتثاث، يتنشق العرب السموم. في الاجتثاث لا يوجد منتصر لأن الخسائر أكبر من أن تحصى أو ترى بالعين المجردة.
تقول التجارب إن الاجتثاث لا ينجح مع تيارات كبرى ومع دول، بل قد ينجح مع جماعة صغيرة ومجموعات عنيفة لا تملك عمقاً شعبياً، لكنه قلما ينجح مع أيديولوجية تعكس واقعاً في المجتمع أو مع مجموعات تطرح فكراً وتجيب على أسئلة تعكس أزمة. إن الاعتقاد بنجاح الاجتثاث مرتبط بقراءة محددة للتاريخ كنجاح فرانكو في تصفية خصومه في الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن العشرين، لكن من ينظر إلى تلك الحرب ومظالمها وتحول إسبانيا إلى الديموقراطية في ما بعد يتعلم أن معارك الاجتثاث بلا معنى لأنها تؤدي إلى نشر الكراهية والموت والفشل النهائي. الأمر نفسه قد يقال عن الحربين العالميتين الأولى والثانية مع قتل عشرات الملايين في نزاعات كان يمكن تفاديها. الحرب العالمية الأولى وقعت بسبب سلسلة أخطاء، يقول لنا المؤرخون إنه كان بالإمكان تفاديها، أما الحرب الثانية فوقعت بسبب عقلية ألمانيا ومشروعها القاري الغريب. لكن ألمانيا، كما تقول القصة، ما كانت ستكون تلك الدولة التوسعية والهتلرية لو لم يقم الغرب المنتصر بعد الحرب الأولى بمعاقبتها وإذلالها.
ينشر الاجتثاث بذور عنف يصعب التحكم بنتائجه ويصنع أعداء جدداً ويخلق ديناميكيات غير مرئية. فاجتثاث الشيوعيين لغير الشيوعيين في التاريخ الأوروبي الروسي السوفياتي العالمي بعد ثورة ١٩١٧ أنتج مظالم كثيرة، وأصبحت تلك المظالم المدخل لسقوط الشيوعية في ما بعد. وعند العرب أدى قيام حزب البعث بتصفية الشيوعيين والقوميين العرب في سورية والعراق في ستينات القرن العشرين إلى إضعاف الجيش والدولة والمجتمع. الاجتثاث يخلق ردود فعل هي في حدها الأدنى مقاومة لحالة الاجتثاث. فالمظلومية بسبب الاجتثاث تتحول إلى عنصر قوة لمن يختار الصمود والتمسك بحقه في التواجد والتعبير.
لو نظرنا إلى أحداث أخرى مرتبطة بالاجتثاث كمحاولات الرئيس العراقي السابق صدام حسين اجتثاث إيران بين عامي ١٩٨٠-١٩٨٨، فتلك الأحداث انتهت بدمار كبير للعراق وإيران، أما سعي صدام لاجتثاث الكويت عام ١٩٩٠ فانتهى هو الآخر بهزيمة نظامه، لكن العقوبات الطويلة على العراق بعد تحرير الكويت عام ١٩٩١ تحولت إلى شكل من أشكال الحصار المؤدي لتشويه المجتمع العراقي وإضعافه، وأدى اجتثاث النظام العراقي في حرب ٢٠٠٣ الأميركية إلى نظام عراقي جديد سعى لاجتثاث البعث، لكن ذلك أدى إلى بروز «داعش» وسقوط العراق منذ ٢٠٠٣ تحت النفوذ الإيراني.
هذه السلوكيات ليست استثناءات بل هي جزء من ثقافة سائدة ساهمت في إفقاد العرب القدرة على مراكمة النجاح والاقتصاد والمعرفة والعمل السياسي والإدارة وحل النزاعات، كما عكست هذه السلوكيات عدم قدرة العالم العربي على عقلنة خلافاته وصراعاته في الداخل والخارج. فقاعدة الاجتثاث صفرية لأنها ترفض الاختلاف والحلول الوسط ولا تجد مجالاً لها إلا في إلغاء الطرف الآخر، وهو ما تدمن عليه الدول والأنظمة كما التنظيمات بما فيها تنظيمات مثل «داعش» و «القاعدة»، فهذه التنظيمات خرجت من ظروف الاجتثاث التي يمارسها النظام العربي نفسه. أما الاجتثاث الإسرائيلي فهو الأصل، فقد مارس الاجتثاث بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة فأنتج سلسلة من الحروب والمآسي. فعلى سبيل المثال أنتج اجتثاث إسرائيل لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في العام ١٩٨٢ كوارث على المدنيين، لكن في الوقت نفسه خرج «حزب الله» من رحم غزو إسرائيل للبنان عام ١٩٨٢، واستمر الصراع بينه وبين وإسرائيل حتى انسحب آخر جندي إسرائيلي من جنوب لبنان عام ٢٠٠٠. كانت النتيجة أنه بدلاً من تواجد الفلسطينيين على حدود إسرائيل أصبح «حزب الله» وامتداده في إيران على حدودها الشمالية.
لا يرى النظام العربي ثمن الاجتثاث على الأفراد ممن يتحولون إلى الضحية الأولى والدائمة لجميع النزاعات. فبسبب ضعف الحقوق وحرية الكلمة والقانون في البلاد العربية تصبح الدولة الأمنية مركز الاجتثاث. فبطبيعته ينتج الاجتثاث الرقابة على الفكر والتعبير، كما يؤدي إلى عقوبات فردية قاسية وعقوبات جماعية تشمل صغائر الأمور. إن معاقبة الناس على ما لم يقوموا به، ومعاقبتهم على سلوك قادتهم والحركات النابعة من قاع المجتمع يحول المجتمع إلى حالة من التوحش والكراهية. الاجتثاث يدفع بالدول إلى التسلح والحروب بينما يؤدي إلى إهمال العلم والتعليم والثقافة. بل يؤدي الاجتثاث إلى التفكك والغضب وهما أقصر الطرق لإنتاج العنف والثورات وكل ظواهر التفكك.
إن الخروج من مستنقع الاجتثاث يتطلب الانفتاح على المعارضات العربية السلمية، ويتطلب أن تتحدث الدول مع معارضيها عوضاً عن سجنهم وممارسة القطيعة معهم. إن إشراك المعارضات في تقرير مصير البلاد عوضاً عن اضطهادهم هو المدخل لبناء التوازن في كل بلد عربي. كما أن غياب دور للمعارضة في الكثير من الدول العربية بسبب الاجتثاث يتطلب فتح الباب للحياة السياسية والحريات كخطوة أولى. وهذا غير ممكن من دون ضمانات قانونية تجيز حرية التعبير. إن عدم الالتفات إلى العلاقة مع المعارضة مهما كان حجمها ونوعها (إسلامية أم ليبرالية أم قومية أم بيئية) سيكون أثره مدمراً على العرب. فحساسية النظام العربي تجاه النقد والتي تصاحبها هستيريا الاجتثاث هي أحد الأسباب التي تجعل العرب في أسفل مؤشرات التنمية.
لنجاح الدول العربية في الزمن القادم لا بد من بناء مؤسسات قادرة على القيام بدور خاص في موازنة أدوار أخرى. فمثلاً القضاء في البلدان العربية في حالة تعثر وتبعية للسلطات التنفيذية، وعندما يسعى القضاء إلى الاستقلالية يواجه بمقاومة ضارية من النظام السياسي، كما أن معظم السلطات التشريعية، إن وجدت، هي في يد السلطات التنفيذية والأجهزة الأمنية، وعند السعي إلى تحقيق بعض الفصل يقع اجتثاث للمؤسسة برمتها. من دون تحقيق درجات من الفصل بين المؤسسات الوطنية المختلفة ومن دون تنوع في آراء وتوجهات هذه المؤسسات لن يستطيع عالمنا العربي التعامل مع التحديات المصيرية التي تواجهه.
إن الانتقال نحو التوازن يتطلب من القادة العقلانية والتواضع والمعرفة بالتاريخ والاستعداد للاستماع والمعرفة العميقة بحدود القوة. عقلية التوازن تتطلب وضع حدود لصلاحيات الحزب الحاكم. فمن دون حدود على السلطة السياسية والقوة ستسقط القيود وسيعتقد القادة والمسؤولون أن بإمكانهم تحقيق الاجتثاث والتصفية، وهذا سيحول المعارضين إلى حالة من العبث والعودة إلى الصراع الصفري. لو كانت هناك محددات لسلطة صدام حسين أو بشار الأسد أو بن علي وحسني مبارك والقذافي وعلي عبدالله صالح وأمثالهم لكان العالم العربي في مصاف الدول المتقدمة ولكانت قضية الإرهاب من مسائل الماضي. إن تغير الشعوب في إقليمنا ودور الاقتصاد والتعليم في هذا التغير يفرضان علينا أن نغير طرقنا وإلا تحول ما نراه اليوم من عنف وانقسام إلى مقدمات لمزيد من القساوة والحروب وهستيريا الاجتثاث.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت |