كثر الكلام في المجتمع اللبناني على الفساد وكثر عدد المتكلمين عليه. ومن المعروف ان كثرة الكلام لا تعني حلاً لقضية في حال غياب الأشخاص والوسائل وآليات العمل. ومحاولتنا التكلم على الفساد هنا تعود الى رغبتنا إنارة هذا المفهوم لكي لا يبقى مبهماً لان المدخل الى محاربة الفساد يكمن في القاعدة القانونية المعتمدة وفي اخلاقيات الأشخاص المؤتمون بمحاربة الفساد المادي وخاصة المعنوي المستشري.
تشكل قضية محاربة الفساد احدى اهم التحديات في المجتمعات الحديثة من أجل حماية الممارسة الديموقراطية فيها وتجنب القيمين في القطاعين العام والخاص من اعتماد وسائل مشبوهة لنيل مكاسب معظمها مالي من خلال الوظيفة والعمل على حساب المصلحة العامة ومبادئ الممارسة الخلقية.
وبطبيعة الحال لا بدّ من الإشارة كما هو معروف ان الفساد لازم معظم الأنظمة السياسية في التاريخ ولا يزال، وهذه الأبنية والقصور التي تتباهى بها الدول اليوم لم تبنَ بالتقيد الدائم والدقيق بمبادئ النزاهة والشفافية.
ولكن خطورة الفساد في عالمنا الحديث تعود الى ان من شأن تصرفات العاملين في القطاعين العام والخاص وضع المجتمعات في خطر الافلاس المادي والمعنوي – خاصة لان الوسائل السمعية – البصرية الحالية ووسائل التواصل المتقدمة المعتمدة تجعل من أية شائبة قضية وطنية بدلاً من ان تبقى قضية شخصية. لذلك جعلت الديموقراطيات المتقدمة محاربة الفساد في رأس أولوياتها، إلى درجة ان مسؤولين سياسيين كباراً وجدوا أنفسهم تحت طائلة القانون وتحت مراقبة وسائل الإعلام، لمجرد ان وجهت إليهم تهم الفساد. ونتيجة لهذا الأمر أقرت الدول تشريعات محددة لمكافحة الفساد واعتمدت الشركات والمؤسسات قواعد للتصرف الخلقي الشريف في تعاملها. وبطبيعة الحال عندما نتكلم على الفساد والرشوة تتجه الأنظار والاهتمام قبل كل شيء الى القطاع العام نظراً لتقاطع مصالح المواطن والشركات والمؤسسات مع الأحكام القانونية والإدارية المعتمدة ولضرورة تعاطي هذا المواطن مع اشخاص محددين حيث انه في حال انزلاق هؤلاء القيمين على الخدمة العامة الى تصرفات ومواقف وتحاليل وسوء تقدير وتفسير للنصوص القانونية والإدارية تلحق الأذى والضرر بالمواطن يتعرضون للملاحقة والمسألة. لذلك هدفت التشريعات معاقبة كل ما من شأنه أن يمس بجوهر الخدمة العامة وحمل الموظف العام إلى دمج مصلحته الخاصة مع المصلحة العامة والتجاوزات وزيادة التعويضات ونسيان التجرد لجهة قبول الهدايا والهبات وبطاقات السفر والإقامة السياحية والحاق الأذى المجاني بالمواطن وسوء تطبيق القوانين والمراسيم الخ...
يتبين من مراجعتنا لمكافحة الفساد في لبنان ان السلطات العامة حاولت منذ عام 1953 معالجة هذا الأمر حيث صدر بتاريخ 18 شباط 1953 المرسوم الاشتراعي رقم 38 الذي نص على أصول ضبط مظاهر الإثراء غير المشروع من سوء استعمال الأموال العامة أو استغلال النفوذ أو حتى جرم تسريب المعلومات التي يحصل عليها شخص من خلال وجوده في مركز معين في الإدارة واستغلالها مع آخرين بغية جني الكسب المادي غير المشروع (Délit d'initié).
ولكن لم ينفذ هذا المرسوم الاشتراعي وقد عملت السلطات العامة عام 1999 إلى استصدار نص آخر هو القانون رقم 154 تاريخ 27 كانون الأول 1999 الخاص بالإثراء غير المشروع الذي هو من ابرز مظاهر الفساد - ولكن ليس بمفرده - وهو يشكل حالياً السند القانوني الاساسي في مكافحة الفساد من خلال الاحكام والتعاريف القانونية الواردة فيه اضافة الى أحكام قانون العقوبات.
ولا بدّ هنا من الإشارة وذلك على سبيل الامانة أنه عقدت مؤتمرات عدة وحلقات عمل لتحديد وسائل مكافحة الفساد ونشير هنا بصورة خاصة الى حلقة العمل التي نظمها مجلس الخدمة المدنية بتاريخ 19/7/1996 في عهد المرحوم الوزير الدكتور حسن شلق واعضاء الهيئة في حينه السادة رياض سلوم وادمون الاسطا بالتعاون مع المعهدالوطني للادارة في فرنسا (ENA).
اما بعد، فيقتضي من منطلق المنهجية العلمية تحديد مفاهيم الفساد وفقاً لما وردت في القانون الحالي وذلك حصراً للموضوع وتوضيحاً لسياسة ممكنة في هذا المجال.
1- مفهوم الفساد والإثراء غير المشروع:
يعتبر إثراءً غير مشروع عملاً بالمادة الأولى من القانون 154/99 (أ)- الاثراء الذي يحصل عليه الموظف والقائم بخدمة عامة والقاضي أو كل شريك لهم في الإثراء، أو من يعيرونه اسمهم، بالرشوة أو صرف النفوذ أو استثمار الوظيفة، أو العمل الموكول إليهم (المواد 351 إلى 366 من قانون العقوبات)، أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة وان لم تشكل جرما جزائيا. (ب) - الاثراء الذي يحصل عليه الموظف والقائم بخدمة عامة والقاضي وغيرهم من الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين، سواء عن طريق الاستملاك أو عن طريق نيل رخص التصدير والاستيراد أو المنافع الأخرى على اختلاف أنواعها، إذا حصل خلافاً للقانون. (ج)- نيل أو سوء تنفيذ المقاولات والامتيازات والرخص الممنوحة من أحد الأشخاص القانون العام جلبا للمنفعة إذا حصلت خلافاً للقانون.
2- الأشخاص المشمولون بمفهوم الإثراء غير المشروع:
يعتبر مشمولاً بأحكام القانون 154/99 وفقاً للمادة الثانية منه كل قاضي أو موظف أو متعاقد أو متعامل أو مستخدم أو أجير دائم أو موقت، في أي ملاك أو سلك، بأي رتبة أو درجة، في الوزارات أو الإدارات العامة في المؤسسات في وزارة الدفاع الوطني أو في المؤسسات العامة ومن بينهم رؤساء مجالس الإدارة، أو في البلديات أو اتحاد البلديات، وكل ضابط أو فرد في المؤسسات العسكرية والأمنية والجمارك.
3- مضمون الإثراء غير المشروع:
نصت المادة الثانية من القانون المذكور انه لا يشترط أن يحصل الإثراء غير المشروع مباشرة أو حالاً بل يمكن أن ينشأ عن الاستفادة من المشاريع المنوي تنفيذها ومنها بنوع خاص (أ)- استخدام أموال الخزينة ووسائل الدولة خلافاً للقانون بقصد تحسين قيمة عقارات يملكها الأشخاص الذين سبق ذكرهم. (ب) - الاستحصال على أموال منقولة أو غير منقولة من قبل أحد الموظفين أو أحد القائمين بخدمة عامة أو أحد القضاة أو من ينتسب إليهم مع علمهم بان قيمتها سترتفع بسبب أنظمة أو قوانين منوي إصدارها أو مشاريع منوي القيام بها إذا حصل ذلك بناء على معلومات سابقة للشراء اتصلت بهؤلاء بحكم وظيفتهم وغير متوافرة لدى العامة.
4- التصريح عن الثروة:
نصت المادة الرابعة من القانون المذكور على ضرورة قيام كل شخص مشار إليه في المادة الأولى إلى تقديم تصريح موقع تبين فيه الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يملكها هو وزوجته وأولاده القاصرين - على أن يعتبر هذا التصريح أحد شروط مباشرة العمل.
يستخلص من هذه الأحكام انها حاولت تحديد مظاهر الفساد والإثراء غير المشروع وضبطه بالقدر الممكن علماً ان الفقرة 7 من المادة 15 من نظام الموظفين حددت المحظورات على الموظفين كما يأتي "يحظر على الموظف... ان يلتمس أو يقبل توصية ما، أو ان يلتمس أو يقبل مباشرة أو بالواسطة بسبب الوظيفة التي يشغلها هدايا أو إكراميات أو منحاً من أي نوع كانت." وتأكيداً لكل هذا، نص قانون العقوبات اللبناني صراحة في الفصل الأول من الباب الثالث الخاص بالجرائم المخلة بواجبات الوظيفة على أحكام محددة في مجال الرشوة معتبراً في المادة 350 انه يعد موظفاً بالمعنى المقصود في هذا الباب كل موظف في الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات والجيش والقضاء وكل عامل أو مستخدم في الدولة وكل شخص عيّن أو انتخب لأداء خدمة عامة ببدل أو بغير بدل.
وقد جاءت المادة 351 ان "كل موظف وكل شخص ندب إلى خدمة عامة سواء بالانتخاب أو بالتعيين... التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته عوقب بالحبس من ثلاثة اشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة اقلها ضعفاً قيمة ما اخذ أو قبل به".
أما المادة 352 من المادة الأولى الخاصة بالرشوة، فلقد نصت على "ان كل شخص من الأشخاص السابق ذكرهم التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أي وظيفة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدعي انه داخل في وظيفته أو ليعمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عليه عوقب بالأشغال الشاقة الموقتة وبغرامة لا تنقص عن ثلاثة أضعاف قيمة ما اخذ أو قبل به".
اما لجهة صرف النفوذ الذي يهدف من خلاله أحد الأشخاص في الاستفادة من شخص ثالث لنيل مآربه، فقد جاء في المادة 357 من قانون العقوبات ان "من اخذ أو التمس أجراً غير واجب أو قبل الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره بقصد إنالة آخرين أو السعي لإنالتهم وظيفة أو عملاً أو مقاولات أو مشاريع أو أرباحاً غيرها أو منحاً من الدولة أو إحدى الإدارات العامة أو بقصد التأثير في مسلك السلطات بأية طريقة كانت عوقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة اقلها ضعفاً قيمة ما أخذ أو قبل به".
5- في استثمار الوظيفة والفساد المعنوي:
وهذا الأمر من مظاهر الرشوة وقد نصت المادة 361 من قانون العقوبات على ان "كل موظف اكره شخصاً من الأشخاص أو حمله على أداء أو الوعد بأداء ما يعرف انه غير واجب عليه أو يزيد عما يجب عليه من الضرائب أو الرسوم وما سوى ذلك من العوائد يعاقب بالحبس سنة على الأقل وبغرامة أدناها ضعفا قيمة المردود".
يتبين من مراجعة هذه النصوص القانونية المرعية الإجراء ان المشترع اللبناني قد لحظ أحكاما بارزة من شأنها المساعدة في ضبط أوضاع الفساد والرشوة وأخلاقية الخدمة العامة خاصة ان الفساد المعنوي اخذ يشكل خطراً مداهماً في مجتمعنا اللبناني بقدر الفساد المادي.
ان هذا النظام القانوني القائم من الوجهة النظرية يجعل التشريع اللبناني من احدث التشريعات لضبط الرشوة والتسيب ومعاقبتها، ولكن لا شك أيضاً ان التحليل السوسيولوجي الواقعي يؤكد لنا ان الأسباب المتعددة للرشوة تجعل منها قضية مجتمع وليس قضية اجتماعية نظراً لمخاطرها. وإذا أردنا تحديد أسباب هذا التدهور، لا يمكننا رده إلى تردي أوضاع الموظفين المادية مثل مستوى الرواتب، والضعف المعنوي، والحاجة إلى المال الخ... ولكن وتجاوزاً لهذه الأسباب الخاصة بالفرد، نرى ان هنالك أسباباً منهجية للفساد يعزز نشوءها ضعف النظام الإداري بشكل يجعل الرشوة من ابرز الأمراض الاجتماعية.
لماذا؟
لان الفساد تحول إلى أسلوب في التعامل بين الناس. وهنا تكمن خطورة ذلك كون الفساد المعنوي المتمثل بالاهمال والتأجيل وعدم تلبية الحاجات وسوء تفسير النصوص القانونية والمراسيم واستثمار الوظيفة دخلت في العقلية الجماعية، وقد سقطت بالتالي القيم التي يفترض ان تقوم عليها المجتمعات السليمة. فالإصلاح هنا يبدو كعملية جذرية تهدف إلى استئصال آفة ضربت المجتمع وعطلت قدراته الأساسية في الابداع والتنفيذ وحلّ المشاكل والقضايا التي تواجه المواطن.
باحث لبناني |