جورج اسحق - القاهرة
مما لا شك فيه أن نتائج انتخابات البرلمان التي تمت في مصر خلال الشهر الماضي، وما سبقها من فشل كل المحاولات لتوحيد المعارضة المصرية على مقاطعتها، توقعا لما سوف يصاحبها من تدخلات في إطار التعديلات الدستورية الأخيرة، التي رفعت عنها الإشراف القضائي وتركتها بالكامل في يد السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، ثم ما صاحبها من ممارسات وتدخلات لتزوير إرادة الشعب المصري، فاقت تصورات أسوأ السيناريوهات المتوقعة.
وما أسفرت عنه هو برلمان الصوت الواحد، المجهز مسبقا لتنفيذ سيناريو التوريث، والذي تنتمي كتلة عظمى منه إلى ضباط امن الدولة (50 لواء شرطة)، أو كبار رجال الأعمال والمحتكرين المنتمين لمجموعة ابن الرئيس(60 من كبار رجال الأعمال)، وسيدات المجلس القومي للمرأة (64 سيدة)، بالإضافة الى الوزراء (أكثر من 10وزراء حاليين وسابقين ) وحشد من الأعضاء الذين كانت الحصانة ملاذهم لحماية أنشطتهم غير المشروعة، أو لحمايتهم شخصيا من الملاحقات القضائية. وكلهم من أعضاء الحزب الوطني الحاكم وكوادره بالإضافة الى عدد محدود يمثل المعارضة الحكومية (حوالى 4 يمثلون نواب غد موسى/الجيل/العدالة الاجتماعية/السلام الديموقراطي) تم اختيارهم وإنجاحهم بالتزوير الفج، وسيرهم الذاتية تكشف عن ارتباط بعضهم بالأجهزة الأمنية أو سوء السمعة، بل إن احدهم بالفعل والذي ترشح للمنافسة على موقع رئيس البرلمان المصري مع الدكتور فتحي سرور تعاد محاكمته في قضية حكم فيها عليه بعشر سنوات سجن، وآخر متورط في قضايا فساد وسبق عزله من رئاسة مجلس احدى الجمعيات الأهلية الكبيرة. وثالث يوظفه الأمن لتفجير أحزاب المعارضة من الداخل إذا تجاسرت على معارضة النظام السياسي. هذا الى جانب بضع عشرات من أعضاء الحزب الوطني الذين دخلوا الانتخابات كمستقلين، على مبادئ الحزب، خشية ألا يدرجهم على ترشيحاته.
ولا يتبقى لدينا بعد ذلك إلا حوالى 12 نائباً منشقاً عن الوفد والتجمع. وللإخوان عضو واحد منشق عن الجماعة. وقد تم إنجاحهم بالتدخل المباشر لأجهزة الأمن، لحفظ ماء وجه النظام وحتى يمكنه الادعاء بوجود معارضة سياسية في البرلمان. وحتى أولئك الأعضاء فإن محدودية أعدادهم كنواب أمام غالبية باطشة للحزب الوطني لن تجعل لهم أي تأثير أو دور، ناهيك عن أن تجميد عضويتهم في أحزابهم أو فصلهم منها يحرمهم من أي دعم أو سند سياسي. كما أن تدخل الأمن الواضح في نجاحهم يجعل منهم معارضة على المقاس المطلوب هادئة ورزينة تلعب دور الرديف أو الداعم الذي يمنح الشرعية لقرارات برلمان هو في الأصل غير شرعي. برلمان تركيبته بهذه الصورة ينتمي أكثر من90% من أعضائه للحزب الحاكم يضع أمامنا تصوراً لما هو آت. ويكشف في اللحظة ذاتها عن طبيعة الفكر السياسي الاستئصالي الذي يتبناه أصحاب الفكر الجديد في لجنة السياسات، وهو انعكاس طبيعي للممارسات الاحتكارية التي يقوم بها رجلهم القوى احمد عز في مجال صناعة وتجارة الحديد. لقد كشف البرلمان بتركيبته تلك عن المأزق الحقيقي الذي وصل إليه النظام السياسي في مصر ونخبته السياسية الحاكمة، مأزق يعكس استمرار تآكل وضيق الفئات الاجتماعية التي يمثلها، وبالتالي تآكل مماثل في شرعيته السياسية التي جعلها هذا البرلمان بتركيبته التي اشرنا إليها على المحك بعدما أقصى منه ليس فقط كل معارض سياسي أو منتمى للإخوان، بل حتى الأصوات العاقلة المنتمية للحزب الوطني، والذين كانوا لسنوات طويلة رجال النظام السياسي، لكنهم كانوا يتمتعون إلى حد ما بحس وبممارسات وعقلية رجال الدولة وأعضاء البرلمان. وهو ما يعكس بدوره صورة عن صراعات القصر المشتعلة حول الوريث المقبل لمقعد الرئاسة ويعطينا صورة للطريقة التي سوف يحكم بها.
هكذا نرى ان الانتصار الغاشم للجنة السياسات في معركة البرلمان، والتي كانت تطويرا كيفيا لخططها في انتخابات مجلس الشورى العام الماضي ليس انتصارا بقدر ما هو كارثة كاشفة لعمق أزمة النظام، وفقدانه للشرعية والعقل ، حيث لا يتورع رجالها حتى عن تدمير مقومات الدولة الوطنية ممثلة في القانون وأحكام القضاء، بل يقومون بالإضافة إلى هذا باستثارة النزعات العنيفة لدى قطاعات واسعة من المهشمين تحت إشراف ودعم أجهزة الأمن وتوظيفها فى معاركهم السياسية من اجل السيطرة على أطراف المشهد السياسي وإقصاء المعارضة، حتى يتسنى لهم تعبيد الطريق أمام سيناريو التوريث، وهو النهج الذي سيدفع بلادنا إلى الفوضى. igeorgeus@yahoo.com (المنسق العام الأسبق لحركة "كفاية")
|