أضحى الأزهر محل الهجوم والنقد الطبيعيين كلما جدد الوجه الدموي للإسلام السياسي حضوره في مصر. أصحاب دعوات «تجديد الخطاب الديني» يرون في المؤسسة العريقة مشكلةً لا حلاً. لكن هؤلاء يقاربون الأمر وكأن ما يصفونه موجود في فراغ، بلا تاريخ ولد منه وبلا سياق يحدد طبيعته ويؤشر الى سبل التعامل معه. تم «تأميم» الأزهر بقانون صدر تحت حكم جمال عبد الناصر عام 1961 أصبح بمقتضاه «يتبع رياسة الجمهورية» (مادة 2)، وأصبح شيخ الأزهر موظفاً يختاره رئيس الجمهورية من دون ترشيح من داخل المؤسسة (مادة 5). وبالتزامن مع ذلك سلب الأزهر أوقافه التي كفلت استقلاله وأقحمت فيه كليات «حديثة» فانتقل من كيان مستقل صغير نسبياً متخصص في العلوم الشريعة وما يخدمها، ومن دون فلسفة إدماج واضحة، إلى جامعة حكومية تخرّج إلى جانب الفقيه المعمم الطبيب والمهندس والمحاسب الذي درس مقدمات العلوم الشرعية في المعاهد الأزهرية (ما قبل الجامعية). أصدر عبد الناصر، هذا القانون ليتحكم بالأزهر، لكن الأزهر من خلاله مد مساحته. الكليات الجديدة أفسحت المكان لمئات الآلاف من الطلاب في نظام تعليمي كامل يقتصر على المسلمين (أمر منطقي لمنظومة مصممة أصلاً للتخصص في العلوم الشرعية). في السبعينات من القرن الماضي تزامن التوسع في التعليم الأزهري مع استخدام الرئيس أنور السادات الدين أساساً لشرعيته، ملقباً نفسه بالرئيس المؤمن وواصفاً مشروعه بـ «دولة العلم والإيمان» ومتحالفاً مع تيارات الإسلام السياسي لضرب اليسار. «التطوير» لم يقدم الكثير فكرياً، لكنه أصاب الأزهر بما تعانيه منظومة التعليم المصرية كلها من ترد.
لا في شك أن الأزهر المتخصص الأصغر المستقل مالياً، والذي كانت الدراسة فيه بالمجان، وكان يقوم بمعيشة أبنائه في أروقته (جمع «رواق» حيث سكن الطلبة)، أنتج نوعية تعليم أفضل مما نرى اليوم، بعض خريجي كليات الأزهر الحديثة ممن عرفت يعجزون عن كتابة جملة من دون أخطاء إملائية، ناهيك بالنحو.
أبعد أثراً من التدخل المباشر لدولة تموز (يوليو) كان ما غيرت في المجتمع ومن ثم في تجربة الطالب الأزهري. الدارس في كليات الشريعة وأصول الدين واللغة العربية في القاهرة، حين كانت هي الأزهر، قبل 1952، سكن مدينةً متعددة الأعراق والثقافات تموج بحركات سياسية في الشارع وعلى صفحات الجرائد. حرية وتنوع قلما عرفتهما مصر بعد ذلك، شكّلتا وعي الأزهري كما شكّلتا وعي غيره وأوصلنا غيابهما إلى ما نحن فيه اليوم. ساهم الأزهر في «تديين» الفضاء العام، صحيح، لكنه لم يكن الوحيد ولا كانت هذه الموجة منعزلة عن تغييب الحريات.
يرد كثيرون تمدد دور الكنيسة القبطية السياسي في مصر إلى احتكار مسلمين من الجيش السلطة بعد تموز 52 في صورة حكم غير ديموقراطية، مما همش الأقباط سياسياً كمواطنين فاعلين. لكن هذا التغييب شمل الجميع لا الأقباط فقط، وحين أفل عبد الناصر ومشروعه، كانت ثقافة العمل السياسي والأهلي على أسس وطنية جامعة، تلك التي سادت خطاب النخب قبل 1952، همشت. أدى ذلك إلى استخدام الدين أداة شرعية سياسية تحت حكم السادات، تصل إلى صيغة يتقدم فيها الدين أشكال العمل الجماعي. واقع استمر بعد السادات، إذ لعب حسني مبارك أيضاً بالإسلام السياسي ومعه، تاركاً له مساحة تمتد وتضيق من العمل السياسي والمجتمعي، وكذلك ترك مساحة لجماعات محسوبة على السلفيين طالما بقوا خارج العمل السياسي (من ثم الصعود السريع لحزب النور السلفي بعد ثورة 2011). النتيجة، وبعد تهميش قوى ما قبل 52 الليبرالية ثم تحجيم اليسار بعد عبد الناصر، مساحة للإسلام السياسي، بمدها وجزرها، مقابل نظام 52، وتنافس بينها في استخدام الإسلام أداة شرعية. هذا واقع لم يخلقه الأزهر وإن استخدم كجزء منه.
لكن هل يغذي الأزهر مباشرةً الإسلام السياسي وخطابه العنيف؟ أبرز الجهاديين المصريين، أيمن الظواهري خريج كلية طب القصر العيني. أبو الإسلام السياسي السنّي، حسن البنا (تلميذ محمد رشيد رضا) كان درعمياً (أي خريج كلية دار العلوم، جزء من جامعة القاهرة منذ 1946)، سيد قطب تخرج في الكلية نفسها. مرشد جماعة الإخوان الحالي طبيب بيطري، نائبه القائم بأعماله طبيب، رئيس الجمهورية السابق محمد مرسي مهندس، وكذلك رجل الجماعة القوي خيرت الشاطر. كل مرشدي جماعة الإخوان منذ إنشائها من غير الأزهريين وحضورهم (أي الأزهريين) في مكتب الإرشاد لم يبرز يوماً. أين الأزهر، وتحديداً كلياته الشرعية بين هؤلاء؟ في الحركات الجهادية اشتهر اسم أزهري واحد: (الراحل) عمر عبدالرحمن، وارتباطاً بـ «الإخوان المسلمين»، برزت أسماء (الراحلين) السيد سابق و (في مراحل محددة) محمد الغزالي وأحمد حسن الباقوري و (ممن معنا اليوم) يوسف القرضاوي. هل يعني ذلك أن الأزهر وخريجيه براء من أي تعاطف مع الإسلام السياسي ؟ قطعاً لا، لكن لا أرقام لدينا مقارنة بمؤسسات تعليمية أخرى. أضف إلى ذلك أن الفقيه الأزهري ابن مدرسة تقوم على تعدد المذاهب، يتعرف إلى المذاهب السنية الأربعة ويتخصص في واحد منها ويتعلم على أساس من الاختلاف في ما بينها وداخلها (أي حتى بين أتباع المذهب الفقهي الواحد) ويدرس أيضاً، مقارنةً، مذاهب أربعة غير سنية معترف بها (الجعفري الإثناعشري، الزيدي، الإباضي والظاهري). الاندفاع الى العنف يلجمه هنا تدبر وجهات نظر مختلفة، على عكس السلفي- الجهادي «الحركي» المنطلق من «فائض يقين» لا مكان فيه لرأي آخر. على كل من يسير نحو إضعاف الأزهر، كمؤسسة فقهية تحديداً، أياً كان نقدنا له، أن يفكر في البدائل الأسوأ.
من حيث لا يدرون، يضرب من يطالبون بـ«الإصلاح» ما يستحق كل الدعم في الأزهر: التعددية القائمة داخله، ويهزون أساس صدقيته: استقلاله. هؤلاء يطلبون من الأزهر أن يكون طريقاً واحداً بمنهج واحد وصوت واحد يسمعهم فقط ما يقبلون. صحيح أن آراءً تصدر من أزهريين تبدوا قادمة من زمن آخر. لكن من جهة، لا يمكن اختصار الأزهر المتعدد المذاهب في أي من أبنائه، ومن جهة أخرى وأهم من يعتقد أن فتاوى يعتد بها تصدر بالأمر، ناهيك بأن مظهر الخنوع تدمير للصدقية ومن ثم لسلطة أي مؤسسة دينية. صحيح أيضاً أن نصوصاً تدرس في الأزهر تناقض مفاهيم الدولة الحديثة والمواطنة (أمر متوقع في تراث عمره أربعة عشر قرناً) لكن المنطق الرقابي- السلطوي المؤذي حين يتم من خلال الأزهر يكون أكثر إيذاءً إن طبق على الأزهر بـ «حرق» هذا الكتاب أو ذاك كما طالب بعضهم. منع تداول نص لم يعن يوماً أنه لم يعد موجوداً لمن أراد الوصول إليه، المفتاح كيفية قراءة النص: نقدية أم لا؟ ما السياقات التي تضعه فيها؟ هل تسمح بتفاسير متباينة؟ طرح هذه الأسئلة يتطلب حداً أدنى من المعرفة بعلوم الشريعة ومنهجياتها وتعقيداتها، والأهم، اختلافات علمائها، قراءات مسطحة لهذا النص أو ذاك أقل من معرفة كهذه. لا يستطيع الأزهر احتكار الفتوى، لا هو ولا غيره، لكنه يستطيع، وربما واجب عليه، إعلام الناس بتعقيدات استنباطها، وبأنها، مرة أخرى، كثيراً ما تنتج اراءً متباينة فيها من الترجيح أكثر مما فيها من اليقين، كما تدل طبيعة الأزهر نفسها حيث يتجاور طلبة المذاهب السنية الأربعة على مقاعد الدراسة.
نعم، الفقه داخل الأزهر كما عند غيره في حاجة مستديمة للتجديد ومواكبة ما نعيش، لكن الأهم ثقافة المتلقي غير الناقد. السياق هو المحك وطبيعة المخاطَب (بفتح الطاء) وحدود معرفته أهم من فكر المخاطِب (بكسر الطاء). التحدي ليس في مواجهة تديين الفضاء العام بقدر ما هو في الثقافة السائدة، الآتية من خارج الأزهر، التي تحدد طبيعة هذا التديين، وتحديداً في مفاهيم تنظر بعين الشك إلى كل اختلاف، ناهيك بالفردية والحرية الشخصية. هل متلقي رسالة الأزهر أو غيره من مؤسسات دينية (مسلمة وغير مسلمة على حد سواء) ملتزم منطق «المقرر» الذي ساد مدراسنا الحكومية (غير الأزهرية)؟ حيث لا نقاش ولا نقد ولا تمحيص ولا بحث؟ هل هو ابن عشرات السنين من غياب الديموقراطية؟ الإجابة بداهة بالإيجاب. واقع لا يتبدل إلا بعودة فضاء عام يسمح للناس بدور سياسي واجتماعي فاعل في حيواتهم تحت دولة تعرّف نفسها كدولة حريات ومواطنة لا استخدام سياسياً للدين فيها ولا تحالفات معه، أو توظيف، له أو لمؤسساته، وعملية دور الأزهر فيها نتيجة لا سبب.
لذلك ربما كان الحل السير في اتجاهين قد يبدوان متناقضين: استكمال إعادة تحرير الأزهر التي بدأها قانون 2012 (الذي صدر تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة) والذي أعاد للأزهر لجنة كبار العلماء التي تنتخب شيخه، وأعاد إليه إدارة شؤونه، وأكد استقلاليته التي ألغاها قانون 1961، وفي الوقت نفسه، عودة أيضاً إلى ما قبل هذا القانون، إعادة النظر في إقحام كليات «حديثة» على الأزهر والتوسع الهائل في معاهده (المقتصرة على المسلمين). ومن جهة أخرى، توسيع مجال الحريات عموماً بما في ذلك تقييد سلطة المؤسسات الدينية (مسلمة كانت أو غير مسلمة) في المجال العام (بما في ذلك إبقاؤها في شكل قطعي هي وكل ما هو ديني خارج العمل السياسي) وتأكيد حريات الأفراد. إما أن يكون الدين شأناً شخصياً بحتاً أو أن ننتظر «دواعش» كثراً.
* باحث مصري
|