صدر في آذار (مارس) الماضي تقرير بالغ الأهمية عن استخدام العناية الصحية كسلاح في سورية. التقرير الذي صدر عن لجنة اللانسيت- الجامعة الأميركية في بيروت حول سورية لم يحظ بما يستحق من اهتمام في الصحافة ووسائل الإعلام العربية، والواقع أنه كتب بالانكليزية ولم يترجم إلى العربية بعد. اللانسيت مجلة طبية عالمية مرموقة، معنية بـ «تطبيق المعرفة العلمية من أجل تحسن الصحة وحفز التقدم الإنساني»، والتقرير الذي بين أيدينا نتاج عمل مشترك لباحثين من مشارب مختلفة ودول متعددة، ومنهم سوريون ولبنانيون وأميركيون وبريطانيون، وهو أول ما صدر عن اللجنة ( http://thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(17)30741-9/fulltext).
يظهر التقرير كم أن الصحة قضية سياسية، وكم أنه جرى التعامل مع المرافق الصحية والعاملين الصحيين كأهداف حربية. «استخدام العناية الصحية كسلاح، أي استراتيجية استخدام حاجات الناس الصحية كسلاح ضدهم وحرمانهم منها بالعنف، أفضت إلى مقتل مئات العاملين الصحيين، وإلى اعتقال مئات أيضاً وتعذيبهم، وإلى الهجوم المتعمد والمنهجي على مئات المرافق الصحية». وبفعل ذلك صارت سورية «أخطر مكان على وجه الأرض على مقدمي الخدمات الصحية».
استخدام الصحة كسلاح استراتيجية «متعددة الأبعاد» وفق التقرير، لا تقتصر على «الهجوم على المرافق الصحية» و «استهداف العاملين الصحيين»، وإنما تشمل أيضاً «تقويض الحياد الطبي وفرض الحصار الدوائي». كثير من الممارسات هي جرائم حرب واستخدامها المتكرر من قبل النظام دعا التقرير لإطلاق تسمية «استراتيجية جرائم الحرب» على سياسة النظام.
«منذ وقت مبكر جداً، كان الأطباء الممارسون في مناطق تشهد احتجاجات على النظام السوري يعالجون المُحتجين الجرحى سراً خوفاً من تعرضهم للاعتقال». ومثلما هو معلوم، كان وقوع جرحى، وقتلى، من الوقائع الواسمة للاحتجاجات السورية منذ طورها السلمي الباكر. وفي تموز (يوليو) 2012 أصدرت الحكومة السورية «قانون مكافحة الإرهاب»، وهو «يُجرِّم تقديم العناية الطبية لأي شخص أصيب من قبل القوات الموالية للحكومة في تظاهرات الاحتجاج ضد الحكومة». وبينما يُذكِّر التقرير بأن صربيا كانت سنت قانوناً مماثلاً أثناء حرب كوسوفو في عامي 1998 و1999، فإنه يُبرز حقيقة أن قانون الإرهاب السوري يبرر اعتقال وحجز وتعذيب وإعدام العاملين الصحيين، وأن هذه ممارسات متكررة الحدوث، على رغم أن القانون الدولي الإنساني الساري واضح في وجوب حماية العاملين الصحيين من العقاب على تقديم العناية الصحية للجرحي والمرضى، أيّاً كانوا، على ما تقتضي الأخلاقيات الطبية في أوضاع النزاعات الدولية وغير الدولية.
ويستدل التقرير من «نسق هجمات الحكومة على المناطق المدنية أنها (الحكومة) تعتبر كل المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بمن فيهم العاملون في الحقل الصحي، مرتبطين بالإرهاب، وبالتالي أهدافاً عسكرية مشروعة».
بين بداية الثورة السورية في آذار 2011 وأيلول (سبتمبر) 2016 قتل 782 من العاملين في الحقل الصحي، 723 منهم على يد النظام وحلفائه، أي نحو 92 في المئة من الحالات (الباقون قتلوا على يد أطراف متنوعة، بما فيها «داعش»). وكان الأطباء المجموعة الأكثر تعرضاً للاستهداف حيث قتل منهم 247، أي ما يقترب من ثلث مجموع العاملين الصحيين المستهدفين.
ومع الزمن صار استهداف المرافق الصحية الملمح الأبرز لمعاملة العناية الصحية كسلاح، وازاداد تواتره واتساع نطاقه، ما أدى حتى بمجلس الأمن (العاطل كلياً في ما يخص سورية) إلى أن يدين الهجمات على العاملين والمرافق الصحية في القرار 2286 الصادر في أيار (مايو) 2016. وبفعل التصعيد الحاد للهجمات بدءاً من التدخل الروسي في أيلول 2015 كان عام 2016 هو الأسوأ على هذا الصعيد، إذ سجلت 194 هجمة، بارتفاع 89 في المئة عن 2015. الشبكة السورية لحقوق الإنسان أفادت بوقوع 289 هجوماً، استهدفت مرافق طبية وسيارات إسعاف ومواقع للهلال الأحمر السوري، قامت بـ96 في المئة منها قوات النظام والقوات الروسية.
نسق الهجمات على المرافق الصحية يوحي باستهداف متعمد، وهو ما يعتبر جريمة حرب. ووفق أفضل المعلومات المتاحة، يقول التقرير، فإن «تواتر ومدى استهداف العناية الصحية في سورية لم يحدث ما يشبهه في أي حرب سابقة».
ويكشف تفحص الهجمات على المرافق الصحية منذ 2012 عن نسق مميز من معاملتها كسلاح. فقد تكرر استهداف مناطق تسيطر عليها المعارضة في حلب وحماة وإدلب والغوطة الشرقية وحمص، بما يثبت نية الحيلولة دون حصول السكان على عناية صحية، سواء بغرض إعاقة قوات المعارضة أو بغرض إجبار المدنيين على النزوح. لقد استهدفت نقطة طبية تحت الأرض في حلب 19 مرة خلال ثلاث سنوات، منها 13 مرة بين تموز وتشرين الأول (أكتوبر) 2016، حيث تعطلت نهائياً. وتعرض كهف كان يستخدم كمستشفى في كفر زيتا في حماة للقصف 33 مرة منذ 2014، منها 6 مرات في 2017 (التقرير صدر في آذار). كما هوجمت مستشفيات أوريَنت في إدلب عشرين مرة منذ 2013، ما أدى إلى إغلاقها كلها تقريباً في 2016. والمستشفيات الحكومية في مدينة إدلب نفسها التي كانت تحت سيطرة النظام حتى 28 آذار 2015، استهدفت عشرات المرات منذ خروجها من سيطرة النظام، منها 15 مرة عام 2016. وهوجم مستشفى الرستن في محافظة حمص 25 مرة منذ 2012، ومثلها هجمات متزايدة على مستشفيات وسيارات إسعاف في دوما في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2012.
بفعل هذا النسق المتكرر، غادر البلد 15 ألف طبيب، وفق منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، من أصل 29927 عدد الأطباء السوريين الكلي عام 2009. غير أن موظفاً بارزاً في الأمم المتحدة (هو سوري، كان من الكادر الاقتصادي التخطيطي للنظام) أفاد بأن 27 ألف طبيب غادروا البلد من أصل 42 ألفاً. ومن تأذوا على نحو خاص هم سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ففي حلب الشرقية كان هناك طبيب واحد لكل 7000 من السكان في 2015، بينما كان هناك طبيب لكل 800 عام 2010. وتقطع التعليم الطبي لكثيرين، واضطر طلاب الطب إلى القيام بدور أطباء في مناطق محاصرة تتعرض للقصف اليومي، وهو ما يعني تواضع الخدمة الطبية بطبيعة الحال.
وتعرضت وحدات الدفاع المدني السوري، المعروفة منذ 2014 بالخوذ البيض، لـ149 «هجوماً مزدوجاً» عام 2016: حيث تتلو ضربة ثانية الضربة الأولى، وتستهدف المسعفين والمنقذين الذين هرعوا لإنقاذ المصابين بعد الضربة الأولى. وهو ما تسبب بمقتل 154 من الدفاع المدني- الخوذ البيض بين 2013 و2016. ويذكر التقرير أنه يعمل في الخوذ البيض 2900 متطوع، وأنها ساهمت في إنقاذ 80 ألف شخص تعرضوا للقصف في منازلهم أو أعمالهم.
ويرى معدو التقرير أن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، وبخاصة الهجمات المنهجية على المرافق الصحية والعاملين الصحيين بقصد تعطيل العمل الصحي والسيطرة على السكان، هو سابقة خطيرة، ويحض على محاسبة المسؤولين عنها وتوفير الحماية للعاملين الصحيين.
*******
تقدم القول إن التقرير يظهر كم أن الصحة قضية سياسية. لكن يمكن الاستناد إليه أيضاً لصوغ تصور واضح حول أن السياسة قضية صحية. يمكن السياسة أن تهتم بمعالجة الأجساد ومحاربة الأمراض وتسهيل الحصول على خدمات صحية تتحسن لقطاعات تتسع من السكان، ويمكن لها، في المقابل، أن تعتبر الصحة سلاحاً، وتعمل على تجريد السكان منه واحتكاره لنفسها، مثلما عملت دوماً على احتكار وسائل العنف وتجريد السكان منها. استهداف أجساد السكان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يظهر كما أنها تعتبر أسلحة خطرة، يجب أن تمرض وتتعطل، إن تعذر إفناؤها.
بعد استقلال بلدنا كانت مكافحة الجهل والفقر والمرض هي الثالوث الذي يُعرِّف الوطنيين من سياسيين ومثقفين ومتعلمين. كانت الوطنية هي الفكرة والممارسة التي تعرف أولئك العاملين من أجل «نهوض» بلدهم و»تقدمــه»، ليكون مزدهراً قوياً محترماً. الصحة كانت ميداناً أساسياً للالتزام الوطني، واقترن الطب بالاحترام، حتى أن حافظ الأسد جعل ابنه بشار يدرس الطب، وإن ليس قبل توجيه ابنه الأكبر باسل نحو العسكرية. وبقدر ما اجتذب الطب أنبه الأذهان، فقد اشتغل كثير من الأطباء بالشأن العام، السياسي والثقافي. كان الاعتناء بصحة الأفراد وتقليل وفيات الأطفال والأمهات حديثات الولادة ومحاربة الأوبئة، كلها موجهة نحو عمر طويل منتج، يلبي التطلع العام إلى التقدم والتعافي والقوة. وكانت الأداة التي لا منافس لها للسير على درب تحقق هذه التطلعات هي، بطبيعة الحال، الدولة (التي صارت مثل كل دول العالم محتكرة للعنف، وتحوز سلطات لا نظير لها). في وقت لاحق في سورية، صارت الدولة ملكية خاصة مع بقائها محتكرة للعنف، فصارت الدولة تعتقل وتعذب وتحطم الأجساد وتقتل المعترضين على الملكية الخاصة للدولة، وتهين وتذل وتفقر وتعمم الفساد. وبعد وفاة أخيه العسكري، انقلب بشار الذي لم يكمل دراسة الطب إلى عسكري، ومات أبوه قبل أن يصير عسكرياً بجد، فورث حكم سورية وهو طبيب ناقص وعسكري ناقص.
وبعد محاربة الفقر والجهل والمرض، صار المشروع العام الوحيد هو حماية الملكية الخاصة للدولة، أي كارتل العنف المسمى «سورية الأسد»، وانقلب هذا إلى عامل إمراض عام، ومصدراً للفقر والجهل والتعصب.
يتصور المرء أنه كان يمكن للكارتل أن يحمي نفسه من دون الهجوم المنهجي على المستشفيات واستهداف سيارات الإسعاف وقتل الأطباء والممرضين، واستخدام الغارات السامة ضد المحكومين المتمردين. ما الذي يجعل «سورية الأسد» تفعل ذلك؟ يقتضي الأمر تقصّياً في العمق، لكن له صلة على الأرجح بالنظر إلى الأجساد كأسلحة خطرة، والتخلص منها كواجب.
عمليات التغيير السكاني يمكن أن تفهم ضمن هذا النهج التطهيري كقتل بديل.
* كاتب سوري |