منذ البداية بدا الصراع السوري، وضمنه الثورة السورية، أكثر من صراع على التغيير السياسي في هذا البلد، إذ تحكّمت فيه عوامل عدة، لعل أهمها ينبثق من موقع النظام في خريطة العلاقات الدولية والإقليمية، إذ كان حليفاً للشرق وقابلاً للتوظيف من الغرب، فهو لديه علاقات متميزة مع الاتحاد السوفياتي، ثم روسيا، لكنه كان ينسجم أو يتكيف مع استراتيجيات الإدارات الأميركية المتعاقبة، بدءاً من موقفه في أحداث أيلول في الأردن (1970)، ثم دخوله لبنان (1976)، وصولاً إلى مشاركته في حرب الخليج الثانية، في حفر الباطن ولو رمزياً (1991)، وانخراطه في مؤتمر مدريد للسلام (1991)، وفي المفاوضات مع إسرائيل في التسعينات، طبعاً مع التذكير بأن العلاقات الاقتصادية مع الدول الغربية ظلت أكثر بكثير منها مع الاتحاد السوفياتي (إذا استثنينا واردات السلاح).
أيضاً، نحن إزاء نظام يعتبر نفسه ثورياً وتقدمياً، لكنه دخل في منافسات وخصومات شديدة مع الأنظمة المماثلة، في حين أن أكثر العلاقات ديمومة وعمقاً، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، كانت مع الدول الخليجية، التي يقلل من شأنها في الثقافة السياسية التي يروجها. وهو نظام يدعي أنه مقاوم وممانع فيما أهدأ حدود لإسرائيل مع الدول العربية حدودها مع سورية، في الجولان، ما يفسّر الموقف الإسرائيلي بخصوص عدم التدخل في الصراع السوري، وترك الأمور تسير إما نحو بقاء النظام أو نحو مزيد من التمزق والخراب.
من جهة ثانية، نحن إزاء دولة حاولت أن تلعب أدواراً إقليمية مؤثّرة وكبيرة في محيطها، بأكثر من قدراتها، مستغلة في ذلك خطاباتها الديماغوجية، وموقعها الجغرافي المتميز، لا سيما في ما يخص الصراع ضد إسرائيل ودعم المقاومة، يساعد في ذلك ضعف المعارضة فيها وسيطرتها المحكمة على شعبها، كما استثمارها في صعود النفوذ الإيراني لابتزاز دول الخليج خاصة، الأمر الذي تم في عهد الأب على خلاف عهد الابن، بحكم اختلاف الظروف والمعطيات بين العهدين.
فوق هذا وذاك، تقع سورية في نقطة تقاطع حرجة بين مختلف القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، أي أنها بمثابة بلد مفتاحي، لأية قوة إقليمية صاعدة أو طموحة، هذا ينطبق على تركيا وإيران وإسرائيل، والدول الخليجية، ومع أن سورية كانت تلعب على التناقضات والخصومات بين هذه القوى، إلا أنها في ظل الثورة السورية أضحت هي مجالاً للعب، والتوظيف، من قبل الأطراف المذكورة.
هذا يشمل، أيضاً، محاولة روسيا استعادة بعض نفوذها الدولي والإقليمي من مدخل الصراع السوري، لفرض ذاتها كلاعب مقرّر في مواجهة التحديات والعقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة لتحجيمها، وتحديداً للتخفّف من الضغوط المفروضة عليها في ملفات أوكرانيا، وأسعار النفط، والعقوبات التكنولوجية، والدرع الصاروخية، إذ إنها باعتبارها ذاتها دولة عظمى لا يمكن أن ترضخ للإملاءات الأميركية، ما يفسر الانخراط العسكري المباشر في الصراع الدائر في سورية، وحتى منافستها إيران على الورقة السورية. ومشكلة روسيا هنا أن الولايات المتحدة لا تلقي بالاً لسورية، ولا تريد أن تقايض روسيا في سورية، لا في الملف الإيراني ولا في غيره، إذ هي لا تتأثر بما يجري في هذا البلد الصغير المدمر، وترى أن الانخراط الروسي (والإيراني والتركي والخليجي)، سيستنزف هذه الدول، ما يجعلها أكثر طواعية للسياسة التي تريد الولايات المتحدة فرضها، لا سيما أن ما يجري لا يؤثر في حليفتها إسرائيل في المنطقة، بل يجعلها في بيئة استراتيجية آمنة لعقود.
بيد أن كل ذلك بات يضاف إليه، مع تفاقم الصراع السوري، محاولات فرض نسخة معينة للثورة السورية، وهي النسخة الإسلامية، وتحديداً النسخة الطائفية- الدينية- المتطرفة، ما تمثل بتفريخات الجماعات الإسلامية المسلحة (منذ صيف 2012)، سواء كانت «جبهة النصرة» (هيئة تحرير الشام)، التابعة لتنظيم «القاعدة»، وأي من أخواته، أو الجماعات الإسلامية الأخرى التي تبدو متخفّفة من الانتماءات لتنظيمات عابرة القومية، لكنها تصب في الإطار ذاته، بدليل تحالفاتها الوثيقة مع «جبهة النصرة»، إذ لم يحصل الطلاق مع هذه الجبهة إلا أخيراً، وفي مطلع هذا العام، وبخاصة بعد أن أعلنت تركيا ذلك، هذا على رغم كل الأضرار التي ألحقتها تلك الجبهة بالثورة السورية، في صورتها وشرعيتها، وبالسوريين في المناطق «المحررة» التي تسيطر عليها، وعلى رغم الدور الكبير لهذه الجبهة في إزاحة «الجيش الحر» من المشهد، وبطشها بالنشطاء والمعارضين السلميين.
وفي الواقع فإن نشوء هذه التنظيمات لم يكن تعبيراً عن حراكات داخل التيارات الإسلامية المعروفة في سورية، وهي تيارات مدنية ومعتدلة ومرنة، بدليل «وثيقة العهد والميثاق» التي أصدرتها حركة «الإخوان المسلمين» في سورية (آذار- مارس 2012)، والتي تحدثت فيها عن رؤيتها بخصوص إقامة دولة مدنية ديموقراطية، ودولة مواطنين متساوين. بيد أن مشكلة الإخوان أنهم لم يتمسكوا بهذه الوثيقة في خطاباتهم، وأنها لم تتحول إلى ثقافة عامة لدى منتسبيهم ومناصريهم، وأنهم في ما بعد مالوا إلى محاباة الجماعات الإسلامية العسكرية المعارضة، بدل التمايز عنها، إما ظناّ منهم أنها ستصبّ عندهم، وهو لم يحصل، أو بسبب الحفاظ على علاقاتهم مع الدول الداعمة التي تقف وراء تلك الجماعات، كما على اعتبار أن الخطاب الإسلامي لتلك الجماعات ينسجم مع معظم خطاباتها.
هكذا، تأتي الأزمة الخليجية الآن، لتزيد من تأزّم أحوال الثورة السورية، ولتفاقم الصعوبات والتعقيدات والاستعصاءات التي تعاني منها، بالنظر إلى حجم تدخل دولها في الشأن السوري، وشؤون المعارضة السورية.
سيظل الصراع السوري مستعصياً على الحل طالما أن ما يسمى معسكر «أصدقاء الثورة السورية»، يشتغل على نحو غير منسجم، وعلى أساس التلاعب بالثورة، وتهميش دور السوريين، أو تهميش السبب الأساسي لثورتهم وهو الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، خصوصاً أن الولايات المتحدة لم تحسم أمرها بعد، وطبعاً سيبقى ذلك طالما أن السوريين ما زالوا يفتقدون القدرة على توليد كيان سياسي جامع يعبر عنهم ويدير أحوالهم في هذه المرحلة العصيبة. |