الغريب أن ثمة بقايا روح عند حزب البعث كي يعقد مؤتمره القومي في دمشق بعد عقود من التأخير، وبحضور من سمّوا قيادات بعثية قطرية من عدة دول عربية. والأغرب هو المشاحنات العنيفة التي شهدها المؤتمر وخروجه بقرار حل القيادة القومية للحزب بشكل نهائي، والاستعاضة عنها بمكتب قومي استشاري. والأكثر غرابة ما ذكرته وسائل الإعلام الرسمية عن سبب الحل، وهو غياب دور القيادة القومية وعدم قدرتها على ضبط الأمور الأمنية في البلاد!
منطقياً، كان الأجدى اتخاذ قرار بحل الحزب، ليس فقط لأنه خان الشعارات التي رفعها، وتحول إلى أداة قهر وإفساد بيد النظام الحاكم، أو لأنه فقد مشروعيته القومية بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، والتي تمر ذكراها الخمسون، هذه الأيام، وإنما الأهم لأن رياح الربيع العربي، أكملت الإجهاز عليه، معلنة نهاية مرحلة طويلة تصدرت فيها الشعارات القومية المشهد، أو معلنة، ربما، بداية تبلور إرهاصات لفكر قومي جديد غني بعمقه الحضاري وبقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
لم تكن صدفة أن تتصدر قضايا الحرية والكرامة والعدالة، شعارات الثورة وخطاباتها، كنتيجة طبيعية لانحسار الفكر القومي لدى السوريين، وتراجع إيمانهم بدوره كحافز نضالي وتغييري، وهم الذين كابدوا كثيراً من ما آلت إليه أوضاعهم ومن النتائج المريرة التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب النضال القومي على كل شي، ما يفسر ليس فقط شدة رفضهم لسلطة الاستبداد القائمة وإنما أيضاً للمسوغات الأيديولوجية التي تسوغ استمرارها في الحكم.
وتالياً لم تكن مصادفة أن تتقدم مشهد الثورة، التيارات الليبرالية بداية، ثم الإسلامية فيما بعد، وأن تكون قوى المعارضة، التي لا تزال تتعاطى وفق المنظور القومي وشعاراته، هي الطرف الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الثوري، وأن تتكشف صورة لمجتمع لا تعضده آمال قومية وهوية وطنية دأبت السلطة على التغني بهما، بل تنهشه اصطفافات عصبية مريضة ومتخلفة، جراء توسل النظام الشمولي الشعارات القومية والوطنية، لتسويغ القمع والتنكيل وحماية مراتع الفساد والامتيازات الفئوية.
هو حزب البعث الذي احتلت الألوف المؤلفة من قواعده، خصوصاً من أبناء الفلاحين والعمال وصغار الكسبة، الصفوف الأولى في الاحتجاجات والتظاهرات ضد فساد السلطة وعنفها المفرط وقدموا أثمن التضحيات، ليصح القول إن الحركات الإسلامية ما كان لها أن تحوز موقعاً وازناً لولا أنها كسبت فئات شعبية واسعة فقدت ثقتها بحزب البعث والفكر القومي وانسلخت بصورة جماعية عنهما، معتقدة أن الخيار الديني يشكل بديلاً سياسياً وملاذاً روحياً يعينها على مواجهة واقع القهر والاستبداد وأوضاع تنموية ومعيشية مذرية.
هو حزب البعث الذي استسهل أهله التخلي دستورياً عن دوره كحزب قائد للدولة والمجتمع، ولم يعد يسمع لهيئاته وكوادره أي صوت مؤثر في الصراع الدائر، وهو الحزب القومي الذي بادرت سلطته لفتح النار على المبادرات العربية الساعية لمحاصرة تفاقم المحنة السورية واحتوائها، واستجرت لمواجهة شعبها ما حلا لها من الأطراف الإقليمية والدولية، لتمكن الأجنبي المعادي للعرب وطموحاتهم، كإيران وتركيا وروسيا، من تقرير مصير البلاد والمنطقة، وأيضاً هو الحزب الذي دأبت قيادته على تأجيج العصبيات القومية والمذهبية عبر ممارسات مغرقة بالشوفينية واضطهاد الآخر المختلف، ثم توظيف عنفها المفرط واستفزازاتها الطائفية لتنفير البشر من وطنهم ودفعهم للهروب بحثاً عن حياة آمنة وكريمة.
واستدراكاً، هو الحزب الذي قادت سلطته أعنف ثورة مضادة لتحطيم آمال الشعب السوري في التغيير والحرية، واستباحت أشنع وسائل الفتك وأشدها عنفاً وتدميراً للدفاع عن سطوتها وامتيازاتها حتى لو كان الخراب والطوفان، ليغدو أحد وجوه الوفاء لما قدم من تضحيات، هو المسارعة لإطلاق رصاصة الرحمة على حزب البعث وفكره القومي الشوفيني في لحظات احتضارهما، رفضاً لإدمانهما اللاعقلانية وتغليب الغرائز والانفعالات على الواقع الملموس والتحليل الموضوعي، ورفضاً للأوهام والمنفخات الفارغة والجذور المريضة الفكرية والبنيوية التي حاولا أن يستمدا منها حضورهما، والأهم رفضاً لاستمرار دوريهما كأداة قهر وإذلال لمصلحة نظام ازدرى الشرعية الديموقراطية، وكرس سلطانه بشرعية ديماغوجية لا تهتم بالتأسيس لدولة المواطنة والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان، بل تتوسل شعارات تدعي الممانعة وتحرير فلسطين وردع المطامع الإمبريالية والصهيونية كي توطد دعائم الاستبداد وتلغي الحريات العامة والتعددية السياسية وتداول السلطة.
وفي المقابل، ربما يكمن أحد وجوه التفاؤل بالرهان على تقدم مصلحة غالبية السوريين، مع تفاقم معاناتهم وضيق خياراتهم، في لجوئهم للتمسك بهويتهم ووحدتهم وتعدديتهم على طريق خلاصهم من الاستبداد والاستباحة الخارجية وخيار الإسلاموية السياسية، وربما يكمن أحد وجوه الأمل، في أن تتبلور في سورية التي اعتبرت، في ما مضى، أهم قلاع القومية العربية، وأنجبت أبرز منظري الفكر القومي وأكثرهم شهرة، ولم تتأخر في التخلي عن هويتها وخصوصيتها لتلبية نداء أول وحدة عربية عرفها التاريخ الحديث، أن تتبلور أفكار واجتهادات نقدية للفكر القومي تحرره من جملة التباسات أحاطت به، ومن اندفاعات شوفينية بالغة الخطورة ارتكبت باسمه، وأساساً لتؤكد حقيقة الدور الرئيس للاستبداد في تشويه الفكر القومي وتحويله إلى إيديولوجية مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري.
هو أمر لافت ومثير، انتماء غالبية أنظمة البلدان التي ناهضتها الشعوب وشهدت ثورات، كمصر وسورية واليمن وليبيا، إلى الفكر القومي، وهي حقيقة ساطعة، وجود أبعاد وروابط قومية كامنة لمستقبل التغيير العربي، اتضحت ليس فقط في قوة وعمق المشتركات وتشابه أوجه المعاناة، وإنما في التواتر الزمني لنهوض الثورات العربية والتأثيرات المتبادلة بينها، والأهم في تماثل الشعارات والمطالب وتشابه الأعداء والمآلات، ما يوفر شرطاً موضوعياً لتعاضد من طراز جديد بين الشعوب العربية، عنوانه نصرة الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان كطريق لا غنى عنها لحماية الخيار القومي وتمكينه في الأرض. |