وحّدت الحركات الاحتجاجية بين البلدان المغاربية في الفترة الأخيرة، في ظاهرة تؤكد أن عمق التفاوت التنموي بين المناطق يشكل عاهة مشتركة لم تخضع حتى اليوم لعلاج حقيقي. ويجوز القول إن الذي يتغير من بلد إلى آخر هو الحادث الرمزي الذي يُشعل فتيل الاحتجاجات، أما المعضلة التنموية فهي واحدة على رغم مرور ستة عقود على نيل هذه البلدان استقلالها.
وفي تونس والجزائر، حيث تُستخرج غالبية الثروات الطبيعية من مناجم وحقول تقع في المناطق الجنوبية، يُعتبر الجنوب منطقة منسية، أو في الأقل لا يحظى بمشاريع تنموية تُضاهي ما يلقاه الشمال من اهتمام. أما في المغرب فالشمال (أو الريف) هو المحروم من حصته في التنمية، ما أدى إلى اندلاع حركات احتجاج عنيفة أحياناً، بين الفينة والأخرى، من دون أن يجد المحتجون ضالتهم في تأمين فرص عمل أو إقامة مشاريع تنموية. وشكّلت موجة التظاهرات الأخيرة في مدينة الحُسيمة وتخللتها اشتباكات مع الشرطة، حلقة جديدة من الشعور بالتهميش والإهمال. واللافت أن هذه الموجة لم تتوقف تقريباً منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تاريخ اندلاع احتجاجات واسعة في الحُسيمة في أعقاب وفاة بائع السمك محسن فكري، الذي سحقته شاحنة قمامة لدى محاولته استعادة أسماك صادرها منه رجال شرطة. ولوحظ أن التظاهرات التي اعتبرتها السلطات مستوحاة من «الربيع العربي»، ركزت على المطالبة بمكافحة الفساد وإنعاش المنطقة تنموياً. وبغض الطرف عن موقف السلطات المغربية من الناشط ناصر زفزافي الذي تتهمه بتحريك التظاهرات في الحُسيمة، فإن المشكلة الأعمق تتمثل باستمرار الأسباب التي قادت إلى موجات احتجاج ذات طابع اجتماعي، لكنها تحمل في الوقت نفسه دلالات سياسية غير خافية على أحد.
وكان الزلزال الذي ضرب منطقة الحسيمة في 2004 كشف عن هزال البنية الأساسية وهشاشة الوضع المعيشي لغالبية السكان، الذين فقدوا بيوتاً من الطوب والقصدير انهارت على رؤوس ساكنيها. ومع ذلك لم يُنفذ كثير من الوعود بإعادة الإعمار في أعقاب الزلزال. ولا تغيب عن الذاكرة انتفاضة عارمة في منطقة الريف مطلع 1959 التي قاد ولي العهد آنذاك الحسن الثاني قوات الجيش لسحقها، ودخل إلى مدينة الحسيمة بعد سقوط 8000 قتيل في معارك استمرت عشرة أيام. واليوم لا يمكن مجابهة الاحتجاجات بحملات الاعتقال والمحاكمات، التي لا تؤدي إلا إلى المزيد من سكب الزيت على النار، وإنما يحتاج المغرب إلى طي تلك الصفحات القاتمة بمعاودة بناء الثقة مع سكان الريف وإطلاق مشاريع تنموية تكون كفيلة بتنشيط الاستثمار وإيجاد فرص عمل للشباب، كي لا يكون فريسة للتيارات المتشددة.
تداخل الشبكات
الأزمة الاجتماعية في شمال المغرب تضرب بجذورها العميقة في الخزان نفسه الذي تغرف منه الاحتجاجات الاجتماعية في جنوب تونس. ومثلما تتداخل شبكات التهريب في الريف مع حركات الاحتجاج (تهريب البشر والسلع والمخدرات)، تتشابك أيضاً الاحتجاجات في تونس مع مناورات أباطرة التهريب عبر الحدود بين تونس وليبيا. لا يعني هذا أن الشباب الثائر بيدق في كف الشبكات، وإنما يستدعي الأمرُ إدراك مستويات ذلك التداخل، انطلاقاً من المعرفة الدقيقة بديناميات الحراك الاجتماعي. فسكان محافظات الجنوب وبعض محافظات الوسط التونسية ظلوا يشعرون منذ الاستقلال (1956) بأنهم ضحايا تمييز تنموي لمصلحة المحافظات الساحلية. وما زاد من تعميق الشعور بالغبن أن الشريط الساحلي استأثر على مدى ستة عقود بغالبية الاستثمارات في البنية الأساسية والصناعة والزراعة، وإن كانت كثافته السكانية أعلى من المحافظات الداخلية. وطلبت الحركات الجماهيرية التي ظهرت في المنطقة الحق في التنمية، وبلغت ذروتها في ما عُرف بـ «انتفاضة الحوض المنجمي» (2008)، في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، التي تخللتها وأعقبتها حملة اعتقالات ومحاكمات واسعة.
واجتاحت موجات غضب الحوض المنجمي بعد الانتفاضة التي أطاحت بن علي في 2011، حيث عطل شبانٌ الإنتاج في مناجم الفوسفات التي كانت تشكل مصدراً مهماً لإيرادات الدولة، وتكررت الاعتصامات للمطالبة بفرص عمل، حتى قُدر المنتوج في السنوات الخمس الأخيرة بحجمه في سنة واحدة (2010). ثم انتقلت موجة الاعتصامات إلى محافظة تطاوين (500 كيلومتر جنوب العاصمة تونس)، المتاخمة للحدود مع ليبيا، والتي تضم أهم حقول النفط والغاز القليلة التي اكتشفتها تونس. وعرفت المحافظة الشهر الماضي إضراباً عاماً للمطالبة بحصتها من التنمية، خصوصاً أن متوسط البطالة بين شبابها يصل إلى 27 في المئة، ويرتفع إلى 58 في المئة بين الخريجين. وأهم المطالب التي رفعها المُعتصمون في مواقع إنتاج النفط والغاز تشغيل 3000 شاب في القطاع العام وإيجاد 2000 فرصة أخرى في الشركات العاملة في حقول النفط، إضافة الى تخصيص 36 مليون يورو لتأمين فرص عمل لأبناء المحافظة.
حملة على أباطرة الفساد
وفيما وافقت الحكومة على الاستجابة لـ50 في المئة من هذه المطالب، تغيّر الوضع إذ قررت السلطات العليا، في أعقاب اعتداءات على عناصر الشرطة والدرك، تكليف الجيش حماية المنشآت الحيوية في تطاوين، بما فيها الحقول النفطية. ولم تهدأ الأوضاع نسبياً إلا حين أطلق رئيس الحكومة يوسف الشاهد أخيراً حملة غير مسبوقة على أباطرة الفساد. غير أن معالجة التفاوت التنموي بين المناطق وإدماج المحافظات المُهمشة في الدورة الاقتصادية، بتطوير البنية الأساسية وتشجيع القطاع الخاص على إقامة مشاريع تستوعب الخريجين العاطلين من العمل، يظلان ضرورة اقتصادية وسياسية لردم الشعور بالتمييز المناطقي. وطالما أن الجنوب التونسي يتميز بوحدة دينية وعرقية ولغوية، فالقضية هنا مختلفة عن السياق التاريخي للحركة الاحتجاجية في المغرب الأقصى، حيث يشكل الأمازيغ غالبية سكان الريف، وكذلك عن منطقة المزاب الجزائرية التي يتَبع سكانها المذهب الإباضي (المختلف قليلاً عن المذهب السُني المالكي). وبذلك تغدو قضية تنمية الجنوب في تونس قضية سياسية واقتصادية بحت، من دون أية أبعاد أخرى، وهو ما شجع بعض الأطراف الحزبية المعارضة على ركوب موجتها، وهي تحاول استثمارها لترميم شعبيتها.
أما في الجزائر فيرفع العاطلون من العمل مطالب مُشابهة، مُعبرين عن شعورهم بالضيم لأنهم لا يستفيدون من ثمار الثروات التي تُستخرجُ من أراضيهم، وهم طلبوا في تظاهراتهم المستمرة عملياً منذ 2013 في مدن غرداية وورقلة والأغواط، بإيجاد فرص عمل لهم وإقامة مشاريع في منطقتهم. وحدثت أخيراً صدامات بين الشباب المتمرد وقوات مكافحة الشغب، ما شكل عنواناً على انقطاع حبل الحوار بين الحكومة والشباب المطحون بسبب الفراغ والفقر. هكذا تكاد مطالب الشباب في البلدان الثلاثة تكون متطابقة، وهي تعكس إخفاق المشروع التنموي الذي طبقته الدولة الوطنية بعد الاستقلال، إذ عمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين المناطق، ولم يُوزع ثمار التنمية توزيعاً عادلاً. ولا بد لعلاج ظاهرة التفاوت تلك من اللجوء إلى تمييز إيجابي يُمكّن مناطق الجنوب في تونس والجزائر والشمال في المغرب من اللحاق بمستوى التنمية في المركز (المحافظات الساحلية)، لأن هذا التمييز هو الذي سيردم تدريجاً الشرخ التنموي، الذي يمكن أن تستثمره التيارات الانفصالية لتهديد الوحدة الوطنية.
* كاتب تونسي |