تعمد الدولة الثيوقراطية أو تلك التي يحكمها نظام عسكري أو حتى «عصابة»، إلى نعت معارضيها دائماً بنعوت تطلب طردهم خارج الشرعية، من قبيل أنهم انفصاليون أو مخربون أو معادون للشعب. وفي إدانتها المعارضة السياسية، والاحتجاجات الشعبية، والأصوات النقدية، لا تدين هذه الأنظمة سوى نفسها، لأنها تفضح عجزها البنيوي عن التعامل والإصغاء الى نبض الشارع، فهي لا تصغي إلا الى نبض الدول الكبرى التي تحميها إلى حين!
هذا العجز مرتبط بعيب بنيوي، ولد مع هذه الدولة، وتحول مع مرور الوقت إلى ثقل كبير، يهددها ويهدد المجتمع، وأعني بذلك أن هذه الدولة اعتبرت نفسها دائماً قائدة للمجتمع ومحررة له، وليست خادمة عنده، تسهر على تنفيذ طلباته، وبلغة أخرى إنها غالباً ما تنظر إلى الشعب كشر لا بد منه، نظرة احتقار وريبة، نلاحظها ونلحظها عند من يمثلها. لهذا، فهي مستعدة للتضحية بنصف الشعب كما قال حاكم عربي يوماً، أو قصفه بالأسلحة الكيماوية كما فعل غيره. وغالباً ما نكون في سياق هذه الدولة أمام حكومات تمثل نفسها أو طبقة معينة أو نظاماً عالمياً جديداً - قديماً، وليس أمام حكومات تمثل الشعب.
إن إفراغ السياسة من مضمونها وإضعاف الأحزاب واختزال السياسي في الحاكم والسياسة في الإدارة، هذا كله سيقود شعوب المنطقة العربية إلى احتجاجات كبيرة، بل إن الورقة الدينية نفسها قد تنقلب على أصحابها من كثرة ما تم استغلالها وتمييعها.
لقد صدق ناصر الزفزافي، أيقونة حراك الريف في المغرب، وهو الرجل الذي لم يقرأ النظرية السياسية، حين رد على من وصفوا هذا الحراك بالانفصالي، وبأنهم يمثلون دولة انفصالية، فهي كذلك، لأنها انفصلت عن الشعب وعن الواقع. إنها حكومة في ظاهرها حزبية لكنها في مضمونها تكنوقراطية، مرتبطة بمشروع تحديثي، نيوليبرالي، زاد الفقير فقراً والغني غنى. إن ظاهرة ناصر الزفزافي تعبير عن عمق المأساة التي يعانيها الخاسرون من العولمة والسياسات اللاوطنية، وفي الوقت نفسه تعبير عن ضرورة تجاوز إرث النخب الفاسدة التي تحكمنا منذ ما سمي الاستقلال. إن عبارة «الدولة الانفصالية» التي صدع بها الزفزافي، تعبر أكثر من غيرها عما حدث في المغرب والعالم العربي بعد ما سمي الاستقلال، وتلخص اليوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه المنطقة، وتملك بلا ريب قدرة تأويلية هائلة.
أما التحايل المستمر على إرادة الشعب فليس أكثر من «شراء للزمن»، فذلك يجعل النظام يؤجل التعامل مع الأزمات والتحديات ويكتفي بإدارتها أو كبتها، كما أن التعامل بمنطق «فرق تسد» لن يزيد الأزمة إلا استفحالاً. فحراك الريف مغربي بامتياز، وعلى بقية المغاربة أن يتعودوا الإصغاء الى الغات الأمازيغية التي لا يعرفونها، ويقبلوا على تعلّمها باعتبارها جزءاً من الهوية الوطنية، بل الجزء الأساسي، كما أن عليهم ألا يتخوفوا من رفع صور عبدالكريم الخطابي، لأنه يذكرنا باستقلالنا المنقوص، وبأن الاستقلال الحقيقي مرادف لكرامة المواطن، وحين تختفي تلك الكرامة أو تدوسها أقدام الأمن أو تضيع في أروقة البيروقراطية المتعفنة، فمن حقنا أن نتحدث عن استمرار لمنطق الاستعمار، أو عن استعمار داخلي، أو عن عصابة هي لا ريب أكثر رداءة من الاستعمار.
* كاتب مغربي |