منذ أكثر من عشرة أعوام تعودت أن اسمع راديو الـ"N.P.R" وانا في طريقي الى العمل، هذا الراديو المعروف جدا في الولايات المتحدة، أعطاني بالتدريج فكرة عن الحياة السياسية في البلاد التي انتقلت للعيش فيها، غالبا ما ينقل الراديو الجدل الذي يحصل في الكونغرس، غالبا ما ينقل جلسات الاستماع التي تُعقد، في البداية كنت استغرب كيف ان مسؤولا أمنيا كبيرا، قد يكون مدير "السي آي أي" ذاته هو من يخضع لأسئلة النواب المحرجة والصعبة، كنت انتبه كيف أنه يجيب بأدب ودقة ولباقة، وكنت ألاحظ كيف يوجه النواب اسئلتهم بكل قسوة وجرأة واحراج. لقد تعلمت مبكرا، أنا القادم، من نظام قمعي واستبدادي حيث أن مجرد مسؤول امني صغير يجرّ كل نواب مجلس الشعب ووزراء الدولة السورية الى مكتبه.. لقد تعلمت ما معنى الديموقراطية وتعلمت انه يحق لي، كما يحق لكل سوري، أن أحلم بنظام ديموقراطي في بلدي. مع بداية الثورة السورية، بكيت فرحا، مثل غالبية من السوريين في المهجر، لصور التظاهرات الأولى في بلدنا، وبخاصة منها تظاهرات بلدتي "بنش"، لكن بعد ست سنوات، وبعد هزيمة قوات النظام في ادلب وخروجها من كل اراضي المحافظة، لم أتوقع أبدا ولم أتخيل، ان تكون ادلب محكومة من قبل تنظيم ارهابي متطرف مثل هيئة تحرير الشام-تنظيم جبهة النصرة سابقا، وبعض الفصائل الاسلامية المشابهة حيث عدنا من جديد للقمع وتكميم الافواه، واستعباد الناس البسطاء الذين يدفعون أثماناً باهظة بطريقة ربما أسوأ بكثير من طريقة تعامل النظام القمعي السابقة.
تلفزيون "الآن" عرض منذ ايام تقريرا من داخل محافظة ادلب يصور فيه بعض جوانب الحياة هناك، ويشير بشكل صريح الى هيمنة جبهة النصرة على غالبية المواقع والمناطق وتهيمن كذلك على مختلف جوانب الحياة. هذا التقرير وبغض النظر عن مستواه من الناحية المهنية والتقنية، فهو تقرير لافت لناحية المضمون، لناحية تصويره ما آلت اليه الأمور في ادلب مع سيطرة مثل هذه التنظيمات، وابرزها النصرة المرتبطة بالقاعدة، على عموم مناطق المحافظة ما خلا بعض المناطق هنا وهناك. ليست مهمتي ولا اريد ان ادخل في مستوى التقرير من الناحية الاعلامية، ما يهمني، وما يهمنا جميعا، هو ما أتى به، مضمونه، ما صوره، ما عرضه. التقرير يجب أن يكون نذيرا لخطر محدق ينتظر ادلب نتيجة هيمنة هذا التنظيم على المحافظة لا ان نتهم من يقف وراءه بـالمؤامرة" وبأنه يشوه الواقع، وان الغرض منه تصوير ادلب كما لو انها تحت حكم داعش من اجل تبرير قصفها. في هذا السياق يقول غسان عبود: " في عام 1999 عرضت الجزيرة وثائقياً مشابهاً، بنفس الطريقة، قام بإعداده "صلاح نجم" رئيس تحرير القناة تحت مسمى "تدمير القاعدة" وكان يرصد انتشار القاعدة في أفغانستان، وذلك قبل فترة من الحادي عشر من ايلول، وربما كان هدفه إيجاد مبرر أخلاقي في ذهن الشعوب الغربية لتقوم جيوشهم بتصدير "الديموقراطية" الى أفغانستان والعراق!؟" انتهى الاقتباس.
لا أعرف هنا من تسبب في غزو افغانستان وقصفها أهو هجمات الحادي عشر من ايلول وتبني القاعدة لها ام تقرير تلفزيوني لقناة الجزيرة؟حسنا، اذا كان السيد غسان عبود يعرف كل ذلك، وجميعنا يعرف ذلك، اقصد خطورة وجود تنظيم مرتبط بالقاعدة في ادلب، مع ما يجر ذلك من احتمالات القصف وشن الغارات في المستقبل، فلماذا لا نفعل شيئا لمنع تحققه في ادلب ؟ المشكلة ليست في التقرير التلفزيوني، المشكلة في ما عرضه تقرير تلفزيون "الآن" عن الواقع في ادلب، الواقع الذي يقول إن جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة تهيمن على محافظة ادلب وهذه الهيمنة قد تستدعي او تتسبب بضربات جوية في المستقبل. واذا ما حصلت مثل هذه الضربات، فهل يكون السبب تقرير "الآن" التلفزيوني ام وجود جبهة النصرة في المحافظة؟ الاجابة لا تحتاج لذكاء وعبقرية. ثم ان هذه اللغة وهذه الاتهامات لا تقدم ولا تؤخر، لا تعجل ولا تؤخر ضربات عسكرية قد تقوم بها قوات التحالف الدولي في المحافظة، الدول الكبرى لا تنتظر مثل هذه التقارير التلفزيونية، هي تعرف الكثير، وكل فترة تقوم باستهداف قادة في النصرة في مناطق عدة بالمحافظة مثل تلك التي حصلت في "دركوش" وقرب "سرمدا" و"الجميلية" قرب جسر الشغور حيث شنت طائرات التحالف غارة أسفرت عن مقتل القيادي في "فتح الشام" ابو فرج المصري.
يقول غسان عبود في مقالة له على موقع"أورينت نت" الذي يملكه ان الوثائقي" الذي "عرضته قناة "الآن" انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي وأصبح مادة للجدل، بعدما نصبوا "الدبكة" عليه، الجيش الإلكتروني الأسدي وجوقة اليساريين جماعة "ما قلنالكم"! وزمامير الطوائف الذين يريدون القول إن السُنة كلهم منتج ظلامي فاسد!" انتهى الاقتباس.
لا أعرف لماذا تذكرني هذه اللغة بلغة وسائل اعلام النظام ذاته، اللغة التي تكيل الاتهامات يمينا وشمالا، لغة لا يهمها الحقيقة والواقع وما يجري فيه بل تريد أن تصنع واقعا مثلما هي تريد، إعلام النظام انكر في بداية الثورة السورية ان هناك تظاهرات تجري في دمشق او أي منطقة سورية، قال ان كل ذلك يجري اعداده في استديوهات قناة الجزيرة في قطر. وان هناك مؤامرة كبيرة على سوريا..اعلام النظام اراد ان يصنع واقعا متخيلا مثلما يريده ولا يشبه ما هو قائم وما يجري على الارض. لكن انظروا الى أين وصلنا لأنه أصرّ على دفن رأسه بالرمال، لقد تدمرت سوريا وقُتل مئات الآلاف وهُجِر مثلهم.
حتى لو لم يرق لنا تقرير "الآن"، حتى لو كان هناك اطراف تغنت به واشارت اليه لتحقيق مآرب معينة لكن هذا لا ينفي ان جبهة النصرة تهيمن على محافظة ادلب، وان هذه الهيمنة وهذا الحضور سيكون له تداعيات خطيرة في المستقبل على محافظة ادلب وسكان ادلب.
جبهة النصرة عملت منذ وجودها على تكميم الافواه في ادلب، قبل ذلك قتلت و اعدمت ابرياء مثلما حصل في حزيران 2015 حينما ارتكب احد عناصرها مجزرة في احدى القرى الدرزية راح ضحيتها نحو 25 شخصا، وهي المجزرة التي اعتبرتها الجبهة في بيان "مجرد خطأ غير مبرر"...تخيلوا هذا الانحطاط الاخلاقي والاستهتار بحياة الناس الابرياء..التنظيم اعتبر مسألة زهق ارواح بريئة مجرد "خطأ"؟؟؟ " قال الله تعالى: ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)
جبهة النصرة كممت تلفزيون الاورينت ذاته عبر اكثر من حادثة لكن السيد غسان عبود لا يريد ان يعترف بذلك، يقول في مقالته: " والأهم الأوضاع في محافظة إدلب لا تشبه تلك الموجودة في مناطق داعش، ففي إدلب تنتشر القنوات التلفزيونية عبر الصحون اللاقطة، وهناك مراسلون وناشطون بالمئات يحملون هواتف نقالة وأجهزة بث في كل مكان، أورينت تعمل بحرية كبيرة في المنطقة، وحتى قناة الآن لديها 4 مراسلين!؟" انتهى الاقتباس.
شيء مثير للضحك حقا ان نقول ان داعش غير جبهة النصرة، اريد فقط ان يشرح لنا السيد غسان ما هو الفرق، أنا لا أجد فرقا إلا في الاسم ومعلوماتي المتواضعة تقول ان "داعش" وابرز قياديي التنظيم وكوادره أتوا من جبهة النصرة. الجبهة كانت التنظيم الأم. اما في موضوع الحريات التي تنعم بها قناة ومراسلو مؤسسة الأورينت وبقية المراسلين الصحافيين فهذا غير صحيح أبدا، هو محاولة من السيد غسان لتجميل الجبهة او مداهنتها او نفاقها وهو امر مستغرب. اليكم هذه الوقائع من الانتهاكات ضد الصحافيين والمراسلين والناشطين وفي مقدمتهم الذين يعملون لصالح الأورينت:
- تعرضت اذاعة "فريش" لغزوة من قبل عناصر النصرة وتم تحطيم وتكسير اجهزة ومصادرة معدات وقام هؤلاء المسلحون الغازون بكتابة عبارات على جدران مبنى المحطة ما زالت موجودة الى الآن، وقد تركها الشبان العاملون في الاذاعة بشكل مقصود إلى اليوم.
- تم اعتقال الصحافي هشام العبد الله، مراسل الاورينت في جسر الشغور لساعات عدة بحجة انه يعمل بدون ترخيص، رغم انه كان يملك الترخيص. تخيلوا ان جبهة النصرة تعطي تراخيص للعمل الصحافي... شيء مضحك حقا.
- مراسل الاورينت في مدينة ادلب "أنس التريسي" تعرض للاعتقال خلال تغطيته تقارير عن جامعة ادلب ومعبر باب الهوى الحدودي.
- في الثلاثين من تشرين الثاني 2016 تم ضرب العديد من الناشطين بحضور الصحافيين والمراسلين في مدينة ادلب خلال تظاهرة بسبب رفع علم الثورة، كان مراسل الاورينت موجودا مع العديد من الإعلاميين والناشطين وهناك فيديو انتشر على موقع "يوتيوب" يصور همجية عناصر النصرة وكيف انزلوا علم الثورة أرضا.
- في 2015/07/11 انطلقت تظاهرة في قرية "جوزف" شرق جبل الزاوية، بعد أن منع عناصر من الجبهة، تركيب جهاز بث لإذاعة "روزانا" المعروفة هناك، مما حدا ببعض المتظاهرين لمواجهتهم بالحجارة، فردت عليهم الجبهة بالنار، ما أدى الى مقتل شاب وجرح 6، بينهم نساء، واعتقال حوالي 100 متظاهر.
- في 10 كانون الثاني 2016 اعتقل تنظيم جبهة النصرة، الناشطين الإعلاميين السوريين "هادي العبد الله" و "رائد فارس" من داخل مقر إذاعة يعملان فيها في مدينة كفرنبل، على الرغم من ان العبد الله كان في عداد الصحافيين الذين شاركوا قبل ذلك في إجراء مقابلة إعلامية مع زعيم جبهة النصرة أبي محمد الجولاني، وبحسب ناشطين من داخل كفر نبل فقد صادرت المجموعة التي اقتحمت مقر الإذاعة "جميع أجهزة البث الموجودة فيها وقامت بتكسير المحتويات".وأوضحوا أنها "ليست المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال فارس احتجاجا على أداء الإذاعة التي تبث برامج منوعة وسياسية، وبعد اتهامه بالعلمانية وموالاة الكفار"، واضافوا أن "هادي كان في كل مرة يتولى الدفاع عن رائد لكن هذه المرة تم اعتقال الاثنين معا".
لا اريد ان اسرد اكثر من ذلك رغم انه هناك المئات من الأمثلة والشواهد الموثقة على همجية هذه الجبهة وطريقة تعاملها مع الصحافيين والاعلاميين..لكن السيد غسان يرى غير ذلك. لكن المثير والمستغرب ان يقول في مكان آخر:" لا يمكن في إدلب تشبيه الوضع بمناطق داعش، لأن داعش تسيطر منفردة على مناطقها، أما النصرة فتتقاسم السيطرة مع فصائل متعددة، وأغلب الأحيان هذه الفصائل أقوى منهم، مثلا حاولت النصرة مراراً القضاء على تنظيم فوضوي يسمى جند الأقصى.." انتهى الاقتباس...
غريب حقا هذا القول وكأن النصرة مثال للنظام والانضباط فيما الفصائل الاخرى "غير منضبطة"..الجبهة المنتظمة والمنضبطة "النصرة" هي ذاتها التي ارتكبت مجزرة في قرية درزية في ادلب نتيجة "خطأ".؟؟ وهي ذاتها التي تفتح السجون وتعتقل كل من يخالفها وتتهم الناشطين وعناصر الجيش الحر بالكفر يمينا وشمالا وتقوم بتعذيبهم بطريقة وحشية لا تضاهيها الا وحشية النظام السوري وأساليبه.
يعود السيد غسان لتبرير ممارسات الجبهة لكن هذه المرة مع فصائل الجيش الحر:" النتائج المهمة التي حققتها "النصرة" كانت في ريف حلب الشمالي مع فصائل مثل جمال معروف وحزم سابقا. حتى تحرشها بالجيش الحر في إدلب لم يأت بنتائج مهمة وماتزال العديد من الفصائل تعمل هناك." انتهى الاقتباس.
هذا الكلام غير دقيق أبدا، لقد عملت الجبهة على مهاجمة غالبية فصائل الجيش الحر في ادلب، هاجمت المقرات، اعتقلت العناصر، سجنتهم، عذبتهم، استولت على الذخائر والسلاح، وما تبقى من الجيش الحر اليوم هو مجرد فصائل صغيرة تقوم بدفع الأتاوة للجبهة، حيث يقدمون جزءا من السلاح الذي يصلهم مقابل عدم هجوم الجبهة عليهم. هذه حقيقة يعرفها الكثيرون على الأرض في ادلب. ثم ماذا يعني اضعاف الجيش الحر والهجوم عليه للثورة السورية ولسمعتها في الداخل والخارج؟؟ هذا يعني نهاية الثورة وسيطرة التنظيمات الارهابية على المشهد. الجميع يعلم انه لا يمكن للثورة السورية ان تكسب ثقة احد في الخارج او تنال أي تعاطف شعبي او رسمي معها ما زالت تنظيمات متطرفة هي من تحتل المشهد. ان على الثورة السورية ومقاتليها ان يطمئنوا العالم لا ان يخيفوه، عليهم ان يطمئنوا السوريين انفسهم لا ان يخيفوهم، ويؤكد مخاوفهم وهواجسهم بشاعة المستقبل الذي ينتظر سوريا مع هؤلاء المتطرفين. لقد خسرنا كثيرا حين سكتنا عن مثل هذه التنظيمات وممارساتها منذ تحطيم تمثال ابو العلاء المعري في معرة النعمان وصولا الى تحطيم تمثال رمز الثورة السورية في ادلب وحلب ابراهيم هنانو. وقتها اعتبر السيد غسان عبود ان هذه التماثيل مجرد كتل إسمنتية سيئة التصميم ولم ينتبه أبدا لرمزيتها الثقافية والوطنية والتاريخية في وجدان غالبية السوريين.
هناك الكثير من النقاط التي وردت في مقالة غسان عبود عن تقرير تلفزيون "الآن" تستحق التعقيب والرد، لكن لا اريد الاطالة اكثر من ذلك...اعود فأكرر: القضية ليست في التقرير بل بحضور جبهة النصرة في المحافظة وخطر ذلك على الناس مستقبلا.
■ صحافي سوري أصبح مقيما في الولايات المتحدة الأميركية- مراسل سابق لـ"قضايا النهار" في دمشق. |