باستثناء إسرائيل، لم يُثِر كشف وزارة الخارجية الأميركية وجود محارق جثث، بناها نظام الأسد قرب معتقل صيدنايا، ردودَ فعل مناسبة. في إسرائيل وصل الأمر بأحد الوزراء إلى المطالبة باغتيال بشار الأسد، بينما مرّ الإعلان عن تلك المحارق في منتصف هذا الشهر وكأنه مجرد تنويع إضافي ضمن ما بات معروفاً عن وحشية النظام. قبل ذلك، كانت منظمة العفو الدولية، في شباط (فبراير) الماضي، قد أطلقت على السجن المذكور وصف «المسلخ البشري»، موثقة حوالى 13 ألف عملية تصفية لمعتقلين سياسيين، ومقدِّرة عدد من يعدمون يومياً بخمسين معتقلاً.
سيكون من السذاجة، إذا لم يكن من سوء النية، اعتبار ردود الأفعال الإسرائيلية فقط نوعاً من الانتهازية للتغطية على انتهاكات الإسرائيليين في حق الفلسطينيين. الواقع أن الانتهاكات الإسرائيلية لم تكن تنتظر، ولا تنتظر الآن، تبريرات كهذه، والإسرائيليون لا ينامون ويفيقون على هاجس تحسين صورتهم في الأوساط العربية. وربما يدركون أكثر من غيرهم أن العداء لإسرائيل في المنطقة منذ زمن بعيد هو نوع من الاستثمار السياسي يهدف إلى التغطية على جرائم الأنظمة وطغيانها، وهو ليس بالعداء الجاد الذي يتهدد أمنهم، لا من قبل الأنظمة الحالية، ولا من قبل أي بديل محتمل سيرِث دولاً منهكة وممزَّقة ومُفقرة.
حساسية الإسرائيليين تحديداً إزاء المحرقة تعود إلى مركزية الأخيرة في وجدانهم، وهي مركزية نخطئ إذا لم نعطها حقها في الوجدان الغربي المعاصر عموماً، لأن التطهر من جريمة الهولوكوست شهد مساراً طويلاً من الجهدين الثقافي والحقوقي. حدث ذلك بينما انهمك مثقفون عرب، على خلفية الصراع مع إسرائيل، إما في التشكيك بحدوث المحرقة، أو في التقليل من أرقامها كجريمة أودت بحوالى 11 مليوناً، منهم ستة ملايين يهودي. ذلك التشكيك، أو عدم الاكتراث المطلق، يجعلان حساسية اليوم إزاء محرقة بشار متدنية جداً. بل لا يُستبعد أن يطلّ التشكيك القديم في جرائم النازية، ليستأنف عمله اليوم عبر التشكيك بمحرقة بشار، وفق الآلية «الدفاعية» ذاتها بين نفي تام أو تقليل من عدد الضحايا، كأن قلة العدد كفيلة بمحو الجريمة من أساسها.
قد نقول إن ثقافة الممانعة، التي استهانت بالمأساة الإنسانية لمحرقة النازية، سيعود أبطالها اليوم إلى الدفاع عن هتلرهم الصغير. ذلك يتسق تماماً مع شعاراتهم التي تفيد بأن طريق القدس يمر من أقاصي سورية، ومع أناشيدهم التي تصف السوريين باليهود، فضلاً عن الشعارات الأصلية التي تطالب بثارات طائفية. كل هذا يصنع خطاباً شبيهاً جداً بخطابات النازية التي رأت في أولئك المُساقين إلى المحرقة كائنات «دون البشر».
وكي لا نظلم أشاوس الممانعة، نستطيع تحري ثقافة واسعة الانتشار تبني حساسيتها الإنسانية والأخلاقية انتقائياً، إما عن وعي وقصد أو عن تبعية لها وظيفة تطهرية. يصح في هذا السياق استرجاع أصوات عربية صمتت طويلاً عن مجازر بشار، واكتشفت إنسانيتها مع إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية. وإذا استحق الأسرى حقاً التضامنَ التام، فإن أصحاب هذا التضامن الانتقائي لا ينهلون بالضرورة من أفكار عروبية لا ترى قضية سوى القضية الفلسطينية، إذ لا يُستبعد أن يكون بعض التضامن من الفولكلور البائد، وأن يكون لبعضه الآخر وظيفة إظهار الإنسانية على سبيل التعويض، أيْ تعويض الصمت عن المسالخ البشرية الحالية في أكثر من بلد عربي، وفي مقدمها سورية.
لقد خلّفت الأيديولوجيات، بعد انقضائها ظاهراً، ذلك التعاطف مع القضية الفلسطينية منفصلاً عن فضائه الإنساني، ومنفصلاً بها عن الفضاء ذاته. لا يندر في المقابل رؤية معارضين لنظام بشار، يرفعون أصواتهم ضد كافة أشكال انتهاكاته، لكنهم على عهدهم القديم في إنكار المحرقة النازية أو التشكيك بها. مثلما لا يندر إطلاقاً رؤية فلسطينيين، بل ربما شكل هؤلاء غالبية فلسطينية، يصطفون اليوم مع نظام بشار، لا لأنه هتلر صغير، ولا لأنه داعم فعلي للقضية، وإذ يكاد يستحيل العثور على سبب مقنع لهذا الاصطفاف فمن المؤكد أن دعم الضحايا سفاحاً لا يعبّر عن سوية إنسانية ولا عن استوائها.
في هذا المقام أيضاً، من المفيد التذكير بتلك الحساسية المتدنية إزاء ضحايا الكيماوي في حلبجة، ولم يأتِ من فراغ خروج مظاهرة تضامن في حلبجة مع ضحايا الهجوم الكيماوي الأخير في سورية، فمن خرج في التظاهرة اختبر سابقاً معنى الضحية. عندما قصف نظام صدام أهالي حلبجة لم يجدوا ذاك التضامن المأمول إلا في بعض دوائر الغرب، وأيضاً ذهبت نسبة غالبة من أبناء المنطقة، تشمل السوريين أيضاً، إلى التشكيك بمسؤولية نظام صدام عن المجزرة ونسبها إلى إيران بدلاً منه، أو إلى اتهام الأكراد بالمبالغة في تقدير عدد الضحايا.
هكذا يحيلنا نظام بشار مرة إلى هتلر، ومرة أخرى إلى صدام حسين، ويذكّرنا في العديد من الأحيان بأنه الاستثناء الوراثي الوحيد، مع نظام كوريا الشمالية، ضمن النظم الجمهورية. وإذا كان من الخير للسوريين وعموم المنطقة أنه لم يمتلك ترسانة مجنون كوريا فإن هذا لا يحجب تمثّله مجمل خبرات الإجرام في أنظمة أذاقت البشرية الويلات، وقد قيل الكثير عن التجارب الشمولية التي استلهمها الأسد الأب في ترسيخ دعائم طغيان. وما ارتكبه نظامه منذ انطلاق الثورة تحديداً يدلل على تراكم خبرات إجرامية تكاد تكون خلاصة تطور الأنظمة الوحشية في العالم.
بتعبير رمزي، لن نغامر بالقول إن بشار الأسد هو ابن أبيه، وابن صدام حسين وتشاوشيسكو وكيم جونغ إيل، وابن هتلر وابن بوتين سفاح غروزني. لا لعبقرية شخصية جعلته ملمّاً بتاريخ الإجرام، وإنما لأن نظامه دأب طوال عقود على تبادل الخبرات الإجرامية مع أنظمة مشابهة، ولا يزال منضوياً ضمن حلف يتفرد بتوسل الإجرام وسيلة للسيطرة. وجود نظم أخرى ارتكبت في تاريخها بعض الجرائم لا يقدّم تبريراً، ما دام الإجرام لم يصبح نهجاً رسمياً معتمداً داخل الحدود وخارجها.
من جهتنا، لم يكن ينبغي أن نصبح يهوداً ونختبر المحرقة، أو أكراداً ونختبر الكيماوي. لا تزال الفرصة سانحة للذين لم يختبروا كل هذا كي يرفعوا صوتهم، قبل أن يصبحوا في مثل حالنا الآن. |