الخميس ٢٨ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ١٥, ٢٠١١
الكاتب: عبد العزيز قراقي
المصدر: جريدة الوطن الان المغربية
في أفق الاستفتاء الدستوري المرتقب، كل ما لا يعرفه المغاربة عن الملكية البرلمانية

كثر المنادون اليوم في المغرب بالملكية البرلمانية، وبات الاعتقاد يسود بأنها هي حل لكافة المشاكل. والغريب أن بعض من باتوا يتبنونها بالتبعية، لم يسبق لهم إطلاقا أن اطلعوا على مضامينها واختزلوها في الجملة السحرية ـ «الملك يسود ولا يحكم» ـ التي أخرجت من سياقها لتتحول إلى شعار سياسي ترفعه بعض الفئات دونما معرفة أن هذه الجملة الذهبية لا تقتصر فقط على تنظيم للسلطات، بقدر ما هي نتيجة لتطور تاريخي امتد على مدى قرون في إنجلترا

 

المعروف أن الدساتير التي تضمن الاستقرار للمجتمعات ليست هي التي تنظم السلطات بشكل جيد، بل هي تلك التي تحمل هوية الشعب الذي سيطبقها، وتعكس تاريخه، فالدستور الذي يمنح الاستقرار هو الذي يحمل بين طياته عصارة تجربة تاريخية لمجموعة بشرية معينة، ولعل هذا هو الذي منح لبعض الدساتير دون أخرى الاستمرارية، وبوأها مكانة الصدارة في المنظومة القانونية لدول معينة.
لقد أغرمت دول عديدة بالملكية البرلمانية، وطبقتها حتى وإن كان النظام السياسي فيها جمهوريا، فلم تنتج نفس المفعول الذي كان لها في إنجلترا، التي لم تكن الحاجة فيها إلى دستور مكتوب جامد، يسمو على كافة القواعد القانونية، إذ قامت الأعراف الدستورية بدور فعال في تنظيم العلاقات بين السلط، دونما أن يثير ذلك أية مشاكل. لذا فمن الضروري التوقف عند الكيفية التي تطورت بها المؤسسات السياسية في إنجلترا، وكيف تحولت إلى ملكية برلمانية.


امتد تطور النظام السياسي الإنجليزي من القرن الثالث عشر إلى القرن الثامن عشر ويمكن تقسيم ذلك إلى مرحلتين اثنتيتن مرحلة فصل السلط ومرحلة تعاونها:
مرحلة فصل السلط: أفرز عهد الإقطاع علاقة من نوع خاص بين الملك والنبلاء، إذ كان عليهم تلبية نداء الملك كلما كانت هناك حروب أو عندما يحتاج إلى المال، وفي كلتا الحالتين كان الملك يجمعهم في مجلس ثم يحله عندما يحصل على مراده، فترتب عن ذلك ظهور المجلس العام أو الكبير الذي تمنح فيه العضوية لكافة ممثلي المملكة، وهو الذي سيتطور ليفرز في نهاية المطاف البرلمان. والمجلس الخاص، الذي يشتغل بصفة دائمة إلى جانب الملك لتدبير الشأن اليومي للمملكة، وهو الذي سيتحول في ما بعد ليأخذ شكل الحكومة. ومنذ القرن الرابع عشر سينقسم البرلمان إلى مجلس اللوردات الذي يضم النبلاء وكبار رجال الدين، ومجلس العموم الذي تمثل فيه البورجوازية. ولكن كيف استطاع البرلمان الحصول على السلطة التي يتوفر عليها اليوم؟


يتطلب ذلك الرجوع إلى سنة 1215، حين منح الملك جان Jean الوثيقة الحقوقية الماكنا كارطا، أي الشرعة العظمى، وتعهد بضمان حماية ممارسة ما ورد فيها من حقوق، وأبرزها تعهده بعدم استخلاص أية ضرائب، دونما رضا وموافقة الملزمين بها الذين يمثلهم البرلمان، وهو الأمر الذي سيتحول إلى أداة في يد هذا الأخير، إذ كلما كان الملك في حاجة إلى ضرائب جديدة، عليه أن يقبل بإصدار قوانين تحد من سلطته. ولم يكن من الممكن أن تستمر هذه الوضعية على نفس المنوال، إذ عند سعي الملك في القرن السابع عشر التراجع على مضامين الوثيقة الحقوقية، سيؤدي ذلك إلى نزاع انتهي بإعدام الملك شارل الأول سنة 1649، وانتقال إنجلترا نحو النظام الجمهوري الذي تميز بالاستبداد بقيادة كرومويل، مما دفع الإنجليز إلى العودة من جديد إلى الملكية في سنة 1658. غير أن الملك جاك الثاني لم يبد احتراما للحقوق والحريات، مما أدى إلى العديد من الاضطرابات التي ستنتهي بهربه إلى فرنسا سنة 1688، بعدها ستصبح السلطة الحقيقية بيد البرلمان الذي سيقوم باستدعاء سلالة ملكية أجنبية تحكم هولندا، يتزعمها الملك كيوم دورانج Orange Guillaume الذي تزوج ببنت الملك جاك الثاني، غير أنه قبل تقلد منصب الملك كان عليه القبول بشرعة الحقوق سنة 1689 التي ستعطي الحق للبرلمان في التصويت على القوانين، وهو ما أفرز برلمانا له صلاحية التصويت، ولكن إلى جانبه ملك قوي يحتكر كافة السلطة التنفيذية، بل بإمكانه التعرض على إصدار القانون، إلى جانب قدرته على حل البرلمان. لقد توصلت إنجلترا إلى فصل السلط، غير أن توازنها سيتم في فترة تاريخية أخرى ستأتي في ما بعد.

 

مرحلة فصل السلط

 

ستمتد مرحلة تبلور توازن السلط عند الإنجليز، ما بين 1689 و1782 بعد أن شرع الملك كيوم دورانج في اختيار مستشاريه ووزرائه من التيار الذي يشكل الأغلبية داخل المجلسين، وهما تياران اثنان، أحدهما يتكون من المدافعين عن البرلمان ضد الملك، المناصرين للحريات الفردية، والثاني المدافع عن صلاحيات الملك. وهو ما ساعد على إفراز ثنائية حزبية، وعرفا دستوريا يقضي بتكوين الحكومة من الأغلبية، وهي مرتكزات أساسية للنظام البرلماني، أفضت في نهاية المطاف إلى توازن السلط، إذ عوض أن تبقى الحكومة وسيلة في يد الملك ستتحول إلى آلية عمل للأغلبية البرلماني، وهذا التحول تشكلت معالمه عند نهاية القرن السابع عشر، غير أن مرحلة الاكتمال ستتم بعيدا عن صراع المؤسسات، حيث سيلعب فيها القدر دورا حاسما، ذلك أن كيوم دورانج لم يخلف من يعقبه على العرش، إذ بعد وفاة زوجته الملكة آن التي خلفته ستنتهي تلك السلالة الملكية. لكن الإنجليز الذين سبق وأن اكتووا بديكتاتورية جمهورية كرومويل، لم يرغبوا عن النظام الملكي بديلا، فجئ بسلالة ألمانية من هانوفر، مثلها الملكان جورج الأول وجورج الثاني، وكلاهما كان يفضل اللغة الأم عن اللغة الإنجليزية، وهو ما دفعهما إلى عدم حضور أشغال الحكومة التي كانت تتم باللغة الإنجليزية، فأفرزت هذه الممارسة ظهور شخصية تنوب عن الملك سيطلق عليها في ما بعد الوزير الأول، فانتقلت بشكل تدريجي وبطئ سلطات الملك إلى الحكومة، أي حكومة الأغلبية البرلمانية. و على مستوى توازن السلط، فإن ذلك سيفرز مسؤولية الحكومة أمام البرلمان، وحق الحكومة في حل مجلس العموم. لكن التطور المؤسساتي الذي شهدته إنجلترا لم يكن يسمح لفئات اجتماعية واسعة بالتعبير عن ذاتها، وإسماع صوتها. أما على مستوى الممارسة السياسية فبقيت الرشوة حاضرة، بل متحكمة لفترة طويلة في الانتخابات المؤدية إلى مجلس العموم، ولهذا حدثت العديد من التحولات التي وإن كانت ستعمم الحق في التصويت على جميع الذكور مع حلول سنة 1884 إلا أنها ستدفع البرلمان في نهاية المطاف إلى تسليم السلطة التي انتزعها من الملك إلى الحكومة. ولكن ستبقى الميزة الأساسية للنظام البرلماني هي أن لا وجود لسلطة تشريعية تعلو على سلطة البرلمان.
لقد أفرز التطور السياسي لإنجلترا العديد من المعطىات أبرزها يتمثل في كون المجتمعات التي تحضر فيها استمرارية المؤسسات، والتراضي كأسلوب للعمل السياسي هي التي تنعم بأكبر قدر من الاستقرار.

 

النظام الحزبي

إن نجاح النظام البرلماني سواء أكان ذا طبيعة ملكية أو جمهورية يتطلب وجود ثنائية حزبية تساعد على تداول للسلطة بشكل سلس، تبدو معه الحكومة منبثقة من الحزب الذي حصل على الأغلبية. حيث يتحول تصور الحزب للسياسة إلى سياسة للدولة. أما إذا كان هناك تعدد في الأحزاب فقلما تكون الحكومة قوية، إذ يفرض منطق الائتلاف تقديم تنازلات من كافة الأطراف المشاركة فيها، وهو ما قد يؤثر في البرنامج الحكومي الذي قد يفتقر إلى الفعالية.


إذا كان النظام البرلماني قد نجح في إنجلترا فذلك لسبب وحيد هو كونه إفرازا للتاريخ، غير أن الدول التي أخذت به استوردت الشكل دون المضمون، لذلك فهو لم يمنحها نفس الاستقرار الذي تنعم فيه المؤسسات السياسية الإنجليزية، وتكفي العودة إلى تاريخ المالية العامة في فرنسا، للتعرف على نتائج استنساخ النظام البرلماني. ولنتصور أن المغرب أخذ بالنظام البرلماني فماذا سيمكن أن ينتج عن ذلك وكيف سيكون عمل المؤسسات.


سؤال المنظومة الحزبية بالمغرب.
إذا كان المغرب يعرف تعددا حزبيا فالأحزاب لم تستطع أن تضمن تداولا للنخب عبر الآلية الحزبية، مما يفسر بغياب الديمقراطية الداخلية، وقد كان من الممكن أن ينجح النظام البرلماني في المغرب لو طبق ذلك عندما كانت الساحة الحزبية موزعة بين حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أما بعد دخول المغرب مرحلة الانشطار الحزبي، وظهور ظاهرة الحزب الأغلبي، الذي يستمد قوته عادة من شخص واحد، فإنه بات من الصعب تحقيق ذلك.


إن النسق السياسي المغربي لم يعرف القطيعة النهائية مع البنيات التقليدية التي كثيرا ما لعبت أدوارا مختلفة على المستوى السياسي. فظاهرة الأعيان مثلا التي كانت تعتبر آلية مخزنية، أكدت الانتخابات غير ما مرة حاجة الأحزاب إليها للحصول على أغلبية عددية، تسمح بالتفاوض والتنافس حول بعض المناصب، وقد أفرزت الانتخابات غير ما مرة في المغرب، أنه من الصعب على أي حزب الفوز لوحده مما أفرز عدم هيمنة أية قوة سياسية على صناعة القرار السياسي، وفتح الباب واسعا على كل التحالفات التي يمكن تصورها دونما مراعاة لا الجانب الإيديلوجي، ولا رغبة أو رأي الكتلة الناخبة. فهل مع ظاهرة الترحال الحزبي التي لم يستطع أن يضع قانون الأحزاب السياسية حدا لها يمكن أن ننجح نظاما برلمانيا؟ هل مع بيع التزكيات الحزبية وشراء الأصوات يمكن خلق برلمان قوي يضطلع بالمهام التشريعية ويراقب العمل الحكومي؟ إنه من السهل جدا اليوم المناداة بإرساء نظام برلماني، ولكن هل هو النظام الذي يصلح للمغرب؟


إن المسألة الدستورية في المغرب بقيت دائما أمرا يدبره الملك لوحده فلم يكن أحد يعرف من ساهم في التعديل ولا من قام به، ولأول مرة يتم اللجوء إلى مسطرة محددة أبرزها الخطاب الملكي لتاسع مارس، الذي قدم تصورا لتعديل الدستور بشكل يختلف تماما عما كان معمولا به في الماضي، على أن يتم إشراك الأحزاب والنقابات في هذه العملية ليتوج كل ذلك باستفتاء دستوري قد يشهده الصيف المقبل. وما يلاحظ على لجنة تعديل الدستور كونها تتكون من كفاءات دستورية مشهود لها بعلو كعبها في القانون الدستوري، غير أن ما يفرح هو أنه لا وجود لأجانب من بين أعضائها عكس ما كان يحدث في السابق.


عندما قرر الإسبان وضع دستور لهم بعد موت فرانكو، اختاروا نموذجا ينسجم مع هوية الشعب الإسباني، ولهذا نحن أيضا في حاجة إلى دستور نجد فيه أولا ذواتنا، يساهم في دفع عجلة التطور نحو الرقي بالممارسة السياسية، غير أن ما يجب أن نعرفه هو أن وضع دستور لن يعتبر النهاية، بل هو بداية جديدة للإصلاح الشامل الذي ينطلق من التأمل مليا في الكثير من المطالب التي باتت ترفع في الشارع.

 

أستاذ بكلية الحقوق بجامعة محمد
الخامس بالرباط



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
إقرأ أيضا للكاتب
من وحي لحظة الإبتزاز الذي تعرض له المغرب من طرف صحافيين فرنسيين
الانتخابات المهنية في المغرب قراءة أولية
سيستفيد الاتحاد الإفريقي من عضوية المغرب
الانقلاب في مالي ينشّط العصابات والحركات المتطرفة
ينبغي مشاركة المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة سيف الاسلام
أخبار ذات صلة
المغرب: زعيم حزبي يعد بعدم رفع الضرائب إذا تولى الحكومة المقبلة
المغرب: لجنة نيابية تصوّت اليوم على «تقنين» القنب الهندي
المغرب يعلن عن «استقبال استثنائي» لجاليته في الصيف
سياسي مغربي: الحزب المتصدر للانتخابات لن يتجاوز 80 مقعداً برلمانياً
«النواب» المغربي يناقش «تقنين زراعة القنب الهندي»
مقالات ذات صلة
الانتخابات المقبلة وضعف النقاش السياسي في المغرب - لحسن حداد
استياء مغربي من «تهجم على الملك» في قناة جزائرية
الجميع مستاء وسؤال المستقبل مطروح على المغرب - انتصار فقير
عن أزمة النخب السياسية في خطاب العاهل المغربي - بشير عبد الفتاح
الحركات الاحتجاجية المُطالبة بالتنمية تُوحَّد بين البلدان المغاربية - رشيد خشانة
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة