الأحد ١٢ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون ثاني ٢٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في أوروبا أيضاً: زلزال حزبي آتٍ - محمد الحدّاد
فيما العالم مشغول بالسياسة الأميركية وتحوّلها إلى المجهول مع وصول دونالد ترامب إلى الحكم، تحدث في أوروبا تغيرات عميقة قد لا تقلّ شأناً وإن كانت أقلّ إثارة، وستكون لها حتماً تبعات في المستقبل وتأثيرات على المنطقة العربية.

في الولايات المتحدة، تقوم المنافسة السياسية عادة بين حزبين «رخوين» أحدهما ديموقراطي والثاني جمهوري، وهما أقرب إلى النادي السياسي من الحزب بالمعنى التنظيمي الصلب، ويمكن لأي مواطن أميركي أن ينخرط في أحد الحزبين ولو قبل فترة قصيرة نسبياً من الانتخابات، ويصبح مرشحه لأعلى المناصب ومنها منصب الرئاسة، إذا توافرت فيه القدرة على إقناع منخرطي الحزب ونجح في حشد المبالغ المالية الضخمة لتحقيق ذلك.

على هذا الأساس، نجح دونالد ترامب في أن يتحوّل بسرعة شخصية سياسية ثم رئيساً لأقوى بلدان العالم من دون أن تكون له كفاءات أو خبرات سابقة في الميدان. ولا تمكن مقارنته بالرئيس رونالد ريغان على رغم بعض نقاط التشابه، لأن ريغان كان قد تولى حكم ولاية كاليفورنيا مرتين قبل الترشح للرئاسة وبدأ التدخل في الحوار السياسي والدفاع عن آرائه المحافظة قبل عقود من الترشح للمناصب السياسية.

مبدئياً، يبدو حصول سيناريو مثل هذا مستحيل في أوروبا، إذ الأحزاب فيها تخضع لتنظيمات داخلية صلبة فلا يمكن اختراقها بسهولة، ولا تكفي الكاريزما ولا الأموال أمام الأجهزة البيروقراطية الحزبية، إذ يخضع كل مترشح لرقابتها ولا يمكن أن يمرّ من دون رضاها. وفي التسعينات حاول رجل أعمال يدعى برنارد تابي أن يخترق الحزب الاشتراكي الفرنسي ليمثل تيار التجديد فيه، لكنه فشل فشلاً ذريعاً. وعادة ما يمارس رجال الأعمال نفوذهم من وراء الستار ويكوّنون «لوبيّات» (جماعات ضغط) قوية لكنهم يتفادون التحوّل إلى الأدوار الأمامية.

في غمرة النشوة بوصول الرئيس أوباما إلى الحكم عام 2009، بدأت بعض البلدان الأوروبية تنفتح على التجربة الأميركية وبدأت تنتشر ظاهرة تنظيم الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب، لضمان ديموقراطية أكبر وتوفير فرص الاختيار لمنخرطيها. الحزب الاشتراكي الفرنسي جرّب هذه الطريقة في انتخابات 2011، بعد أن تعذّر على مرشحه المتوقّع، دومينيك ستراوس كان، خوض الانتخابات الرئاسية بسبب الفضيحة الجنسية التي أقصته من منصب المدير العام للصندوق النقد الدولي. لكن النتيجة أكّدت أنّ البيروقراطية الحزبية تظلّ الأقوى، بما أنّ الفائز في الانتخابات التمهيدية كان فرنسوا هولاند، الأمين العام للحزب، الذي فاز بعد ذلك في الانتخابات الرئاسية.

بدت التجربة ناجحة فاقتبسها الحزبان الفرنسيان اليميني والاشتراكي هذه السنة، لكنها هذه المرة قلبت الموازين السياسية وربما الخريطة الانتخابية. فعلى اليمين، جاءت المفاجأة بترشّح فرنسوا فيون، صاحب الأطروحات الليبرالية القصوى، على حساب الشخصيتين الأكثر شهرة وهما ساركوزي وجوبيه. وعلى اليسار، يبدو الشخصان الأكثر شعبية حتى الآن هما وزير الاقتصاد السابق مانويل ماكرون والخطيب الشعبوي جون لوك ميلنشون، وقد اشتركا في رفض الخضوع لقرار المرور بانتخابات تمهيدية. وعلى عكس ما كان متوقعاً، لم يحظ رئيس الوزراء منويل فالس بالشعبية اللازمة وجاء في الرتبة الثانية أثناء الدور الأول من هذه الانتخابات.

لكن كائناً من كان المنتصر في هذه الانتخابات التمهيدية فإنه سيبدو ضعيفاً أمام المرشحين الاشتراكيين من خارج الحزب، عدا أن الحزب نفسه قد انفجر بسبب هذه الطريقة الجديدة في تعيين مرشحه. ويعتبر العديد من المراقبين أن الانتخابات التمهيدية قد قضت على كلّ فرص الحزب في منافسة اليمين، بما سيفتح الطريق أمام أقصى اليمين ليكون الطرف الثاني في المنافسة الانتخابية المقبلة على الرئاسة.

إذا تساءلنا لماذا كانت الأحزاب السياسية في أوروبا أكثر صلابة فإن الجواب الأهم هو أنها نشأت في الأصل على قاعدة أيديولوجية. ثم مع انهيار الأيديولوجيات في السبعينات، تحوّلت قاعدة هذه الأحزاب إلى نمط بيروقراطي، فأصبحت إداراتها هي التي تتحكم في مصير المرشحين وتوجهاتهم.

ومن المرجح أن تكون أوروبا اليوم في صدد تطور ثالث يتمثل في تراجع قدرة البيروقراطيات الحزبية على ضبط الأوضاع، ثم في قدرتها على المحافظة على الأحزاب التاريخية. وفي فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وإسبانيا واليونان وغيرها، تشهد الأحزاب التاريخية مصاعب جمة وتتكرّر المفاجآت الانتخابية ويبرز جلياً تصاعد أقصى اليمين.

ثمة تغير عميق في الخريطة الحزبية وفي الأوضاع السياسية ينذر بتوزيع جديد يجعل الناخب الأوروبي، مثل زميله الأميركي، أمام خيارين لا ثالث لهما: الليبرالية القصوى أو أقصى اليمين. في حين تبدو الأحزاب اليسارية والاشتراكية الخاسر الأكبر. وإذا ما نجح حزب يساري في الوصول إلى الحكم، كما حصل في اليونان، فإنه يقوم بوظيفة وحيدة وهي تهدئة الشعب ليتقبل رغماً عنه الإجراءات النيو-ليبرالية القاسية. وفي اليونان، يموت حالياً مئات الأشخاص يومياً بسبب موجة الأنفلونزا التي تضرب أوروبا كلها، لكنها وحدها التي تدفع ثمناً بشرياً هائلاً لأنّ سياسات التقشف المطبقة فيها منذ سنوات أضعفت المؤسسات والوظائف الطبية...


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة