الجمعه ١٠ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون ثاني ٢١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
من اليقين الأعمى إلى اللايقين الإيجابي - علي حرب
شاع مؤخراً مصطلح جديد دخل في مجال التداول السياسي والفكري، تحت مسمى «ما بعد الحقيقة». وهناك كثر فزعوا من هذا المصطلح على حقيقتهم ويقينياتهم الخاوية، كما فزعوا من قبل، من مصطلح «ما بعد الحداثة»، على حداثتهم العاجزة والآفلة. من هنا فالعلاقة بين الحقيقة وما بعدها تشبه العلاقة بين الحداثة وما بعدها. نحن إزاء وجهين للعملة الفكرية النقدية نفسها.

بالنسبة لما بعد الحداثة، فإنها شكلت موجة حداثية جديدة ولدت بالذات من مأزق المشروع الحداثي، على ما آلت إليه عناوينه حول الإنسانية والعقلانية والتنوير والتقدم والسلام الدائم: لقد استُهلكت بعد أن أدّت دورها، لكي تترجم بأضدادها. تشهد على ذلك الأزمات التي تعصف بالمجتمعات الغربية، من الانهيارات المالية إلى الضائقة المعيشية، ومن أزمة الديموقراطية إلى استهلاك النماذج التنموية، ومن عجز الطبقات السياسية إلى هجمات المنظّمات الإرهابية.

وبالإجمال فإن مأزق الحداثة قد نَجَم عن تعامل أهل الحداثة مع شعاراتهم بصورة لاهوتية، تقليدية، أي بنفس المنطق الذي انقلبوا عليه، وذلك بتأليه الإنسان وتقديس العقل وعبادة الحداثة والتقدم، الأمر الذي دفع بعض الحداثيين إلى الارتداد على أفكارهم بالنقد والمراجعة، للكشف عما تأسس عليه خطاب الحداثة وساهم في تلغيمه من التهويمات الخلاصية الفردوسية أو التصوّرات الطوباوية الساذجة التي تشهد على الجهل بالواقع البشري، بقدر ما تنبع من الثقة المفرطة بالإنسان والعقل.

بهذا المعنى لم تكن ما بعد الحداثة تخلياً عن العقل التنويري. بل سعت إلى تشخيص المشكلة، باقتحام منطقة جديدة لعمل الفكر تتعدى منطوق الخطابات للحفر في طبقاتها أو الكشف عن مسبقاتها، للقراءة في صمتها أو تفكيك ألغازها، لتعرية ألاعيبها أو فضح سلطتها، أي كل ما لا يدركه القائل من طيات فكره وغياهب عقله والتباسات مفهومه. الأمر الذي يجعل في كل ما نفكر فيه ونعقله أو نبرهن عليه، جانباً يخرج عن نطاق التفكير وسيطرة العقل أو قبضة المنطق. وهذا ما يفسر كيف أن هذا الفكر يصل إلى خلاف ما يفكر فيه أو إلى عكس ما يسعى إليه. وفي هذا شاهد كيف أن ما نكبته أو نتناساه أو نرفضه، إنما يشكل ذاكرتنا أو دخيلتنا التي تجتاحنا من حيث لا نحسب.

نحن إزاء منطقة جديدة أسفر العمل فيها عن افتتاح إمكانات خصبة تطور معها مفهوم العقل، بقدر ما تشكلت صيغ عقلانية مركبة، مرنة، منفتحة على الجسد والدماغ والهوى، كما على أنساق العلامة وأطياف الرغبة وهوامات الذاكرة، أي على ما كان يستبعده خطاب الذات المفكرة والعقل المحض والأنا المتعالية لدى فلاسفة الحداثة.

والذين خافوا من نقد العقل وحسبوه عودة إلى مجاهل اللامعقول، إنما يشهدون أولاً على جهلهم بالحداثة التي بدأت كنشاط نقدي عند ديكارت وكنط. كما يشهدون على نظرتهم المثالية والمجردة للعقل، في حين هو فاعلية بشرية لها حدودها، بمعنى أنه في ما ينتجه من أنظمة المعرفة ولغات الفهم، لا ينفكّ عن إنتاج آلياته اللامعقولة أو التستّر على بداهاته الخادعة وممارساته المعتمة. من هنا لا مهرب من إعادة النظر في ما ننتجه من النظريات والمذاهب أو المناهج، على سبيل التحسين والتطوير أو التعديل والتغيير. من غير ذلك يتحوّل دعاة العقلانية إلى مجرد ديناصورات فكرية، بقدر ما يتعاملون مع أفكارهم بصورة أصولية متحجّرة، لكي يشكّلوا الوجه الآخر للمشروع الأصولي.

خداع التمثُّل والتمثيل

أصل من ذلك إلى ما استدرجني إلى كتابة هذه المقالة: مسألة الحقيقة وما بعدها. فالنقد حاول هنا أيضاً تسليط الضوء على المأزق الذي يهرب من مواجهته عُشاق الحقيقة وطلاب اليقين، من الذين تعاملوا مع أفكارهم بصورة سحرية جسدتها مزاعم التيقن والقبض على الحقيقة، بقدر ما تعاملوا مع الحقيقة بصورة ماورائية تقوم على نفي الوقائع لكي تصح المقولات والنظريات. وكانت النتيجة أن تصدمنا الوقائع وتفلت من سيطرتنا الأحداث والمجريات. وإلا كيف نُفسر ما يحفل به المسرح العالمي من الفوضى والاضطراب أو العبث والجنون.

من هنا فإن المأزق يتعدّى الصراع على الأحقية بين المذاهب الفلسفية والاتجاهات الفكرية. لم تعد المسألة أي المذاهب هو الأصح في تصوره للواقع؟ المسألة هي أننا أمام مهمة غير قابلة للتحقيق، أعني استحالة القبض على الحقيقة أو احتكارها من خلال مبدأ أحادي مطلق، سواء تعلق بالأمر بحقيقة الكائن وماهية الواقع أو بهوية الذات ومعنى النص.

والأساس في ذلك أن هناك فجوة لا تردم بين مستويات الوجود: بين الكلمات والأشياء، أو بين التصورات والوقائع، كما بين المقولات والكائنات. وإلا كيف نفسر عجز الأنساق العقلانية، على تراكمها وتكاثرها، من أفلاطون الى هيدغر، عن الإحاطة والقبض أو عن التقدير والتوقع، سواء على المستوى المعرفي، أو على المستوى السياسي.

تلك هي المشكلة، إذا أحسنّا القراءة: خداع مقولة التمثل المطابق للواقع، وخداع التمثيل الصادق للمواطن. وما حصل مؤخراً من صعود للتيارات اليمينية المحافظة، الشعبوية أو العنصرية، والذي هو الوجه الآخر لفشل الأحزاب اليسارية، سوى تعبير عن هذا العجز البنيوي والتكويني، سواء في مطلب القبض على الواقع أو في ما يخصّ التنبؤ بما يمكن أن يقع.

ديكتاتورية الحقيقة

من هنا حاول نقد الحقيقة معالجة المشكلة، بالعمل على تفكيك منظومة فكرية تحكّمت بالفكر الفلسفي منذ أرسطو، تأسّست على مقولات المماهاة والمطابقة أو الماهية والثبات، وسواها من المقولات التي تعاملت مع الحقيقة على نحو أيقوني قدسي، بل ديكتاتوري. وكانت النتيجة أن نحصد ما نحصده من الاستبداد باسم الحقيقة المطلقة والنهائية. ولا عجب، فمن قدس شيئاً وقع ضحيته أو استبد بواسطته، كما يشهد أصحاب الكتب المقدسة والنظريات الشمولية، سواء في معسكر الدين أو على جبهة العلمانية.

بهذا المعنى لم يكن نقد الحقيقة مجرد عبث، ولا هو وقوع في أفخاخ اللايقين. بل كان سعياً للكشف عما تعامى عنه خطاب الحقيقة وأسهم في تلغيمه، وذلك بفتح مفهوم الحقيقة على إمكاناته، على وقع التراجعات والصدمات والانهيارات، وفي ضوء التحولات الجذرية التي يشهدها العالم على غير صعيد وفي غير مكان.

وكانت الحصيلة النقدية استخدام طريقة مغايرة في التفكير تتعامل مع مسألة الحقيقة بمفردات الصناعة والتحويل أو الخلق والتركيب أو السياسة والاستراتيجيا أو اللعبة والرهان. بذلك انفتح إمكان للتفكير والعمل تغيرت معه العلاقة مع مفردات الوجود، وبالأخص مع الفكر والواقع.

فالفكرة لم تعد مجرد مرآة للواقع أو ترجمان لواقع الحال، إذ لا تطابق أصلاً بين التصور والواقع، ولا بين الفكر والذات. هناك انزياحات وتصدّعات وفراغات تملأها الهواجس والأحلام أو الوساوس والكوابيس، كما تملأها الرغبات المخاتلة واللغونات الصامتة أو الذاكرات الموتورة والجراح الغائرة. الأجدى والأفعل أن تعامل الأفكار بوصفها وجهات نظر أو تأوّلات، أي رهانات على الفهم والتشخيص أو المعالجة والتدبير. وأنا أؤثر استخدام مصطلح القراءة. والقارئ أياً كان اختصاصه، ليس مجرد محقق نصل معه الى معرفة الواقع على نحو كلي أو حتمي، وإنما هو بالمعنى الاستراتيجي لاعب فاعل، قادر على خلق وقائع لم تكن في الحسبان، وعلى نحوٍ يؤدي الى تغيير خريطة المشهد وقواعد اللعبة أو علاقات القوة.

كذلك تغير مفهومنا للحقيقة، بالتحرر من مقولة الحقيقة المتعالية على شروطها، بوصفها توجد بصورة مسبقة ومستقلة عن مشاريع الإنسان وأنشطته أو أعماله وصنائعه، لمصلحة مفهوم آخر يتعامل مع الحقيقة بوصفها جملة ما يوجد أو يحدث من الحقائق المفردة أو الوقائع الجزئية.

بهذا المعنى فالحقيقة هي قدرة الإنسان على الخلق والابتكار والاختراع في هذا المجال أو ذاك، بقدر ما هي طاقته على التحول والتجدد. وما يخلقه المرء يصنع به حقيقته بقدر ما يدعي كشف الحقيقة. هذا ما فعله سقراط الذي كان، وكما روى عنه أفلاطون، أول من ابتكر منهجاً معرفياً لتوليد الحقيقة: لم يقبض فيلسوف الساحة على الحقيقة بل صنع حقيقته، هو الذي اعترف في نهاية المسيرة بالجهل وعدم المعرفة. طبعاً نحن لا نوافقه على ذلك، لأن المسألة تتعدى ثنائية الصدق والكذب، أو الشك واليقين. فالرجل قد لعب لعبته وترك أثره على المستوى المعرفي أو الخلقي.

وهذا ما فعله معظم الفلاسفة: إنهم لم يقبضوا على حقيقة الوجود أو يصلوا الى كنه الأشياء. ما فعله الواحد منهم هو أن يلعب لعبته باجتراح إمكانات غير مسبوقة، خارقة للشروط وعلى نحو تتجدد معه شبكات القراءة وخرائط الفهم. على ساحة الفكر الفلسفي. ونحن إذ نعود الى ما تركوه من الأعمال، فلكي نقرأها، بوصفها عوالم فكرية هي من الغنى والكثافة والالتباس بحيث تحتاج إلى من يشتغل عليها ويستثمرها كإمكانات لتجديد العدة الفكرية بوجه من الوجوه.

وهكذا لا مجال لمعرفة الواقع على طبيعته أو في جوهره، لأن كل تعاطٍ معه أو موقف منه يسهم في تغييره على نحو من الأنحاء، سواء كان صيغة أو قاعدة ، شبكة أو صورة ، سلعة أو أداة. وإذا كانت ما بعد الحداثة باعترافها بسلطة العلامة والنص قد فجّرت مفهوم التمثُّل المعرفي، فإن الثورة الإعلامية باعترافها بسلطة المعلومة والصورة قد فجّرت مفهوم التمثيل الديموقراطي، على النحو الذي يجعل الصورة ليس فقط مجرد نسخة عن الواقع، بل تصنيعاً للواقع باصطناع واقع جديد. وهكذا فالصورة تصنع العالم اليوم. ولا يجدي نفي ذلك. الأجدى استخدام هذا المنجز على نحوٍ إيجابي وبنّاء.

هذا الالتباس الذي يجعل كل معرفة بالواقع تصبح هي نفسها واقعة تتغير معها خريطة الواقع، هو ما عبّر عنه الفيزيائيون بمصطلح «اللايقين»: استحالة التثبت من هوية عنصر أو إدراك خاصيته على نحوٍ دقيق. ولكنه ليس اللايقين السلبي أو العدمي. ليس اليقين الأعمى الذي يفضي إلى إنتاج عقائد شمولية أو قطعان بشرية، بل اليقين الإيجابي المثمر، بوصفه يكسر منطق القطع والقولبة، بالانفتاح على الواقع بكل تعقيداته ومتاهاته وأفخاخه، بكلل وجوهه وأبعاده وأطواره، الأمر الذي يتيح للاعب استخلاص دروسه ورصد دلالاته، أو تقدير احتمالاته والتأثير في مجرياته.

وتاريخ الفكر البشري، بتعارض مذاهبه وتناقض نظرياته أو تضارب رهاناته، إنما هو شاهدٌ على أنه لا أحد يحتكر الحقيقة، وبأن أقصى ما يبلغه المرء هو تقديم قراءته للوقائع. ولكل قراءة خصبة وفعالة حقيقتها، إذ هي تغدو واقعة تضاف إلى سجل الحقيقة. فيما هي تقرأ في الوقائع ما لم يقرأ من قبل، سواء تعلق الأمر بقراءة نصّ أم حدث. هذا ما يجعلنا نتردد بين قراءة الواقع وواقع القراءة، بين الواقع الذي يستحيل نصاً والنص الذي يتحول به الواقع.

وهكذا نحن إزاء واقع لا ينفكّ يتغير. لأن كل قراءة حية وراهنة تسفر عن خلق وقائع تخرق الشروط وتجتاز الحدود، لكي تكسر القوالب الجامدة والمسبقات المعيقة والنماذج المستهلة، بابتكار الجديد والفعال والمفيد من أنماط التفكير وأشكاله وأساليبه وصُعده، وعلى نحو يعاد معه تشكيل الواقع وإعادة تركيبه بتغيير بنيته ومشهده أو مساره ومجمل علائقه.

بهذا المعنى فإن ما بعد الحقيقة هو ثمرة لنقد الحقيقة، تماماً كما أن ما بعد الحداثة هي ثمرة لنقد الحداثة. وأياً كان النقد فإنه لا يعني المماهاة والمطابقة. فلا شيء يتطابق مع شيء آخر، لأنه لا شيء يقوم بذاته أو يكتفي بذاته، إذا شئنا تجاوز منطق الماهية والهوية والمماهاة نحو منطق النسب والعلاقات والصيرورات. كما لا يعني من جهة أخرى النفي والإقصاء. لأن ما يحدث في العالم يملك قسطه من الحقيقة، ويغدو مادة لقراءة تصبح هي نفسها جزءاً من الحقيقة. وإذا كان العالم على مستوى الكلمات هو مكتبة كبرى، كما قيل، فإن الحقيقة هي هذا التقاطع والتشابك أو التبادل والتفاعل بين المستويات والصعد التي يتألف منها عالم الإنسان: الذهني والحسي، الرمزي والمادي، أو الثقافي والطبيعي... مما يجعل ما نفكر فيه أو نقوله، ما نخترعه أو نفعله، يقيم مع الحقيقة علاقة إشكالية مزدوجة، ملتبسة أو متوترة، تضعنا على المفترقات بقدر ما تُنسج من الفروقات، وتنفتح على المفارقات والمفاجآت، لكي تجعلنا نتردد بين العجز والمعجزة، بين الإخفاق والإنجاز.

وهكذا نحن نقرأ في كتاب العالم ووقائعه. وكل قراءة تختلف عن سواها بقدر ما ترى الواقع على خلاف ما هو عليه، فتقرأ فيه ما هو فوقه أو تحته، أو ما قبله وما بعده، الأمر الذي يجعل الواقع أقل وأفقر واقعية مما هو عليه، كما هو شأن القراءات التي لا تأتي بجديد، أو يبدو أكثر وأغنى واقعية مما نحسب، كما هو شأن القراءات الخصبة والفعالة التي تخلق وقائع نفك بها الطوق أو نفكك العوائق ونجد المخارج، عبر أعمال الاجتراح والاشتقاق أو الخرق والعبور أو التدخل والتوسط أو التركيب والبناء.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة