الخميس ٩ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون ثاني ١٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
صناعة «العمق الاجتماعي» لدى جماعات «الإسلام السياسي» - عمار علي حسن
ينشغل المتابعون والمراقبون والدّارسون بالصخب الذي تصنعه الجماعات والتنظيمات التي تستعمل الإسلام في تحصيل السلطة السياسية والثروة الاقتصادية، فينخرطون في وصف وتحليل خطابها، وتعقب ممارساتها، بغية مواجهتها، أو على الأقل تحجيم نفوذها، وتسري في أوصالهم عدوى هذا الصخب، فتأتي أقوالهم ضاجة، وأفعالهم متعجلة، وأحكامهم قاصرة، في أغلب الأحيان، فيفيدون قيادات وأتباع هذه الجماعات من حيث لا يدرون، خصوصاً أن هذه القيادات تلعب دوماً على الزمن، وتراهن على تغير الظروف لمصلحتهم، وتؤمن بحتمية الانتصار في النهاية، بينما يصاب منافسوهم بالملل أو فتور العزيمة.

هذا الرهان على الزمن وتبدل الأحوال والظروف والمواقف التي تندفع بلا هوادة يجعل تلك الجماعات تضع دوماً في حسبانها ضرورة السيطرة على المجتمع، فهو المخزن البشري الذي يمدها بالأتباع والأنصار، في علاقة تتراوح بين التعاطف معها والانضمام إليها، وبينهما درجات من الشعور والمدارك، تسعى الجماعات الدينية السياسية إلى تعميقها، ودفعها إلى الميل لهم، والانفضاض عن التيار المدني الذي ينافسهم في المدى الطويل، وعن السلطة الحاكمة، التي تعمل على عدم بلوغهم مقصدهم في الوصول إلى الحكم، على المدى القصير.

يجعل هذا التفكير والتدبير تلك الجماعات تصنع بمرور الزمن عمقاً اجتماعياً، ظاهراً وخفياً في آن، موظفة كل الوسائل، المشروعة منها وغير المشروعة في سبيل تحقيق هذا الهدف، ومستغلة غفلة المنافسين عن الناس، أو انسحاب أجهزة الدولة من مهمة تقديم الخدمات وتطبيق السياسات التي من شأنها توفير الاحتياجات الضرورية من غذاء وإيواء ودواء وكساء وتعليم للطبقة العريضة من الشعب. فالمدارس والمستوصفات والمتاجر كانت دوماً أدوات حاضرة أمام هذه الجماعات للوصول إلى أعماق المجتمع، وخلق قطاع كبير من الناس يعتمد عليها، ويؤمن بدورها، ويطلبه في إلحاح. وقد صنعت رصيداً كبيراً في هذا الاتجاه، متكئة على البعد الاجتماعي الطبيعي للدين، الذي يدفع الناس إلى البذل والعطاء، في صورة زكوات وصدقات ومساعدات وتبرعات وهبات.

وعلى رغم أن الناس يؤدون واجبهم حيال الآخرين في ركاب «التراحم» و «التكافل» اللذين يفرضهما الدين فإن هؤلاء يختلفون عن الجماعات الدينية السياسية في أمرين، الأول هو أن جهدهم يبذل بطريقة فردية، تغلب عليها العشوائية، على العكس من هذه الجماعات التي تفعل هذا في إطار جهد منظم، تطلق بدايته، وتعرف نهايته. والثاني هو أن الخيِّرين يفعلون هذا عن طيب خاطر، ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، وينتظرون الثواب في الآخرة، بينما لا تنشغل هذه الجماعات بالمردود الأخروي فحسب، بل تعمل على تحصيل الثمن في الدنيا، من خلال حشد وتعبئة من ترعاهم مادياً أو تساعدهم في مواجهة صروف الحياة ليسندوها في صراعها مع السلطة ومع التيار المدني، بثقافته، وتوجهاته، ورهاناته التي تبتعد عن «الدولة الدينية» لمصلحة مدنية الحكم والثقافة.

لكل هذا يجب على الباحثين المهتمين بدراسة هذه الجماعات ألا ينشغلوا فقط بتصرفاتها اليومية العنيفة، ولا بخطابها الشاذ أحياناً والذي يثير جدلاً واسعاً، ولا بطريقتها في إدارة معاركها السياسية سواء المنتظمة والدورية مثل استغلال الانتخابات في حصد مزيد من النفوذ السياسي، أو الطارئة مثل التظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات والثورات في دفع نفسها بقوة في المعادلات السياسية المطروحة، إنما يجب عليهم أن يتابعوا عن كثب التمدد الصامت لهذه الجماعات في أوصال المجتمعات وأعطافها. إن هذا التمدد الهادئ يستعمل كل الأدوات الممكنة للتحايل والمداهنة وجمع الثروة وحيازة المكانة الاجتماعية التي يضفيها الدين على كل من يقول للناس، بصدق أو كاذباً، إنه يدافع عنه ويحمي وجوده ويعمل على تعزيزه في وجه من يعاديه أو ينصرف عنه أو يقدم غيره ليشغل به المجال العام. ولهذا تجد هذه الجماعات نفسها وقد كونت بمرور الوقت «المجتمع العميق» في وجه «الدولة العميقة» أو في مقابل «التيار المدني» الذي يدعو للتمييز بين الدين والسلطة السياسية.

ولا يعني هذا أن مفهوم المجتمع العميق ينطبق على «التيار الديني السياسي» فقط، لكنه أكثر التيارات السياسية انشغالاً بالتغلغل إلى قاع المجتمع، من دون أن يقتصر على الجوانب الأيديولوجية التي يستخدمها اليسار طيلة تاريخه في ظل انحيازه للطبقات الدنيا، بل يزيد عليها بالاهتمام الكثيف بالمسائل المادية، وبالتالي يبني جسوراً قوية، وأكثر ديمومة، مع قواعد اجتماعية ممتدة، وهي مزية لا تتوافر إلا للدولة. ولا يقتصر العمق الاجتماعي لأي من الجماعات الدينية السياسية على جهدها منفردة، إنما بينها علاقات من التقاطع والتعامد والتوازي ما يجعل كل منها تخدم الأخرى، سواء كانت مدركة هذا، أو غير مدركة، قاصدة هذا وتتحرك بوعي في سبيل خدمة ما تسميه كل هذه الجماعات «المشروع الإسلامي» أم تقود تفاعلاتها، التي تتراوح بين تحالف وصراع وما بينهما من تنسيق وتوافق وتبادل منافع وتقسيم أدوار، إلى الحفاظ على وجودها، ومساعدتها على التمدد في بنيان المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وطوائفه وتجمعاته وهيئاته.

وهذه العلاقة تتأسس بدرجة أولية على تشابه الأفكار وتقارب الأدوار، فرغم التباين النسبي في التصرفات والدعايات وبعض التصورات التي تطلقها هذه الجماعات في الفضاء العام للمجتمع فإنها جميعاً، تنهل من معين واحد، وتؤمن بحتمية تاريخية واحدة، ألا وهي الانتصار في نهاية المطاف وإقامة «الدولة الدينية» المنتظرة. وهذا التطابق في البدايات والمنابع وتصور النهايات والمآل، يجعل آفاق العلاقة بينها مفتوحة طيلة الوقت على احتمالات عدة، ويجعلنا دوماً مدعوين إلى التحسب والحذر حال تقييم هذه العلاقة، فلا نتسرع ونقول إن الصراع بينها طبيعي وسيستمر، إن رأيناها تتنافس بضراوة، أو يحمل بعضها السلاح في وجه بعض. ولا نتعجل الاعتقاد في أن الخلاف بينها لا يعني بالضرورة أن ما تفعله لن يتلاقى، وسيخدم أكثرها قوة وتمكناً في نهاية المطاف.

لكل هذا، لا تصلح دراسة الأعماق الاجتماعية للجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، من دون رؤية تلك الجماعات من شتى جوانبها، للإجابة عن السؤال الذي لم يُعتن به قدر الاعتناء بأسئلة أحرى تثار حولها، وهو: كيف تخدم هذه الجماعات بعضها البعض، رغم التصنيفات التقليدية لها بين «محافظة» و «راديكالية» و «معتدلة» و«متطرفة» و «عنيفة» و «سلمية؟

وربما وقع كثيرون في غواية ما تصدره هذه الجماعات عن نفسها، وما ترسمه من ملامح زائفة لها، بغية تسويق تصوراتها ومراميها إلى أعرض قاعدة جماهيرية ممكنة، خصوصاً أن كلاً منها يحرص على أن يبدو متبايناً عن الآخر، بل أفضل منه، وأنه وحده «جامع مانع» في تمثيل «المشروع الإسلامي»، وأن غيره ليس على هذا النحو، أو لا يمثل «صحيح الإسلام» أو «الطريق المستقيم». وتعتقد غالبية أتباع كل جماعة في صحة هذه المزاعم، لكن هذا لا يمنع من حدوث ثلاثة أشياء تجعل كلاً منها تخدم الباقيات، وهي:

1 ـ يحدث أحياناً تنسيق على مستوى القيادات، رغم التنافس الظاهري بين الجماعات التي يتحكمون في قرارها، ويجرى هذا أكثر وقت الأزمات، وحين يرى الجميع أن جماعاتهم مستهدفة مما يسمونهم أعداءهم، سواء كان العدو بالنسبة إليهم هو السلطة الحاكمة أو التيار المدني أو حتى الغرب الذي يزعم أتباع الحركة الإسلامية المسيسة دوماً أنه يخطط للنيل منها. ويتصرفون في مثل هذه الظروف وفق القاعدة التي يبدونها دوماً وهي: «نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه».

2 ـ هناك أتباع في كل جماعة يميلون إلى التوافق مع الجماعات الأخرى، لاسيما في مراحل ضعفها جميعاً، ولدى كل جماعة فكرة راسخة حول قرب أتباع الجماعات الأخرى منها، مقارنة بالقوى السياسية والاجتماعية الفكرية المدنية، أو الهيئات والمؤسسات والتكوينات التي تنظمها السلطة الحاكمة. وتجمع هؤلاء أماكن ومناسبات وأزمات تقربهم من بعضهم البعض. ففي المساجد والجمعيات الخيرية وقاعات الدرس وزنازين السجون تُخلق دائماً ظروف قد تفتح بينهم باباً للتعاون والتفاهم والتنسيق، بقدر ما تفتحه أمام التنافس والصراع أحياناً.

3 ـ حتى لو لم يجر تنسيق بين قيادات هذه الجماعات، أو يؤثّر اقتناع كل منها بقرب الأخريات إليها في التفاعل الإيجابي بينها، فإن الأفكار التي تبثها جميعاً في المجال العام، والتصرفات التي تبدر عنها في مختلف المواقف والمواضع، تجعل كلاً منها يخدم الباقيات، حتى لو لم يكن هذا معلناً، أو مخططاً له على وجه دقيق.

* كاتب مصري



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة