رجولة فائضة ونساء بين نارين: رغبات المتزلفين والأحكام العشوائية
تنقل هذه المشاهدات السريعة أحوال نساء يطلبن الطلاق من رجالهن أمام قضاة المحاكم الشرعية، حيث الرجولة الفائضة وهتك الخصوصيات، والأحكام العشوائية. ما إن تطأ قدمك إحدى عتبات مداخل المحاكم الشرعية في لبنان، حتى تتنشق عبق "بني آدم" الذي يفوح من كل صوب حقداً على تفاحة حواء ودهاء شهرزاد وأخواتهما. الصور الاعتيادية في ذاك المكان هي عويل النساء وزئير الرجال، حيث الانكسار، الخيبة، الظلم، المعاناة الإنسانية بأقذر حللها وأشدها رداءة، حينما تتحول العلاقات البشرية والعائلية معاملات تنتظر تواقيع في الدوائر الرسمية، او مشادات كلامية "حامية" بين أزواج انقلب الحب والتعاطف بينهما الى حقد وكراهية، وبات همّ كل منهما أن يحقق مكاسب أكبر من نفقة ونقد ومن "عفش البيت" الذي غالباً ما اختاراه معاً.
مشاهد عابرة
المشهد الأول الذي استوقفني وانا أدخل المحكمة الشرعية في الشمال، هو مشهد صبي يقف خارجاً، متكئاً على أحد الأعمدة منتظراً اقتربت منه وسألته ماذا يفعل وكم عمره، فقال انه في الثانية عشرة و"ناطر البابا". سألته ماذا يفعل أباه في الداخل فقال أنه لا يعرف. أخبرني الولد أنه يعيش مع ابيه وجدته، وان والديه منفصلان منذ سنة تقريبا وهما يحاولان انهاء معاملات الطلاق. "انا بحب عيش مع الماما كمان بس ما بخلوني"، ثم أضاف انه يشعر بالملل لأنه يقضي ساعات طويلة مع جدته، ووالده غائب في معظم الأحيان. كان متكئاً الى الحائط، يقف وحيداً فيما ملامح الخجل والانطوائية تسكن وجهه الشاحب قليلاً وبنيته الضعيفة. كان ينظر الى البعيد ويحاول ان يدير ظهره للجموع كالهارب من شيئ ما والملفوظ خارج طفولته وبداية مراهقته الى هموم سبقته سناً وداهمته على غفلة.
المشهد الثاني الذي يكاد لا يفارق مخيلتي هو مشهد سيارة سوداء كبيرة توقفت امام المحكمة وخرج منها السائق، مسرعاً ليفتح بابها الخلفي لرجل نزل منها هو الآخر. نزل رجل الدين من السيارة بعمامته الكبيرة. كان الجميع يحدق اليه بأعين يستدر بعضها عطفه والبعض الآخر فقد الأمل حتى بالقليل من الرحمة. أكمل رجل الدين سيره الى مكتبه من دون أن يحدق في الجموع، كأن الهم الأكبر هو ان يصل الى مكتبه وليس الى طالبي نجدته. كان قوي البنية، على عكس الصبي الواقف خارجاً. حيّاه احدهم قائلاً "مرحبا سيدنا" وفتح له الباب ليدخل الى مكتبه لمعالجة هموم الناس او لـ"نخليص معاملاتهم".
رجال السلطة او القانون أي "الدرك" وما شابه ذلك، يتربصون للنساء هناك. ويل لامرأة تنزل وحدها الى المحكمة الشرعية. ستجد كثيرين يأخذونها في الأحضان، خاصة ان لم يكن لها أهل او ان كانت "على قد حالها". امرأة معنفة على الأرجح، وتبحث عن مخرج من حياة زوجية فاشلة. تجد أشخاصاً يبدون اهتمامهم بها ويتحسرون على شبابها وجمالها الذي لم يقدره زوجها. سرعان ما تقع في شرك أشد نقمة من شرك الزوجية الفاشل، لأنها غالباً ما تكون هشة وانفعالية، عاجزة عن التمييز بين الأشخاص الذين قد يساندونها صادقين ومن دون مقابل من "فاعلي الخير" الذين يلتمون من كل جهة لأنها فقدت "السترة" في مفهومها الاجتماعي وصارت مباحة لهم.
النساء يجلسن ومعطمهن يتجهن بانظارهن الى الحائط. يحدقن في اللاشيء، كأنهن يتمنين لو ان وجوههن تختفي او تتغير معالمها. الشيئ الذي يستدعي السخرية في ذلك المكان هو انعدام الخصوصية. فأبواب القضاء مشرعة والناس تعرض مشاكلها وخصوصياتها علناً، فيسمعها العابرون. البعض يضحك والبعض يتأثر والبعض الأكبر يصم آذانه. في إحدى الزوايا وقف المحامي يؤكد لأحد موكليه أن الحكم سيصدر لصالحه. وآخر يعد موكلته باسترداد حقوقها ويلهمها بالصبر وعدم الانجرار وراء انفعالات قد يستدرجها اليها "الخصم". من يستطيع الاعتراض؟ في الحب والحرب، كل شيء مباح.
الفوقية والتعالي
تخبر احدى النساء المطلقات حكايتها، فتقول: "اذكر يوم نزلت الى المحكمة الشرعية متأبطة ذراع والدي في عداد النساء المكسورات الجناح. طلب مني الرجل الواقف على الباب أن أضع غطاء شرعيا على رأسي قبل الدخول الى الشيخ (القاضي). انتظرنا خارجاً قبل ان ادخل انا ووالدي وزوجي ووالده الى مكتب الشيخ. كان يقف قبالتي ويشرح موجهاً كلامه الى زوجي، موضحاً انني طلبت الانفصال من دون سبب جوهري. "ولكنه يخونني"، حاولت مقاطعة حديثه. لكن الشيخ رمقني بنظرة مفادها ان التزم الصمت. لم يوجه لي الكلام ولو لمرة واحدة. كان يكلم والدي وينظر الي كأنني رمز للخطيئة او غير ناضجة بعد. شعرت بالضيق وكنت اتمنى لو تنتهي الامور بسرعة. كان زوجي يهاجمني باتهامات عشوائية امام رجل دين لا اعرفه ولا هو يعرفني. يتكلم عن حياتنا الخاصة ويؤكد انه لا يخونني، ولكن "عقلي صغير". حاول الشيخ الهامه بالصبر فتأفف والده كأنني انا من ظلمت ولده وليس هو من ظلمني. خرجت من تلك الحجرة وانا ابكي. اردت ان اصرخ وادافع عن نفسي ولكن بدا لي أن ذاك المنبر للرجال فقط. اتفقنا ان اتخلى عن كل شيئ مقابل الحصول على الطلاق لأنني انا من بادر الى طلبه وهكذا كان.
الفروق الاجتماعية
الانقسام الطبقي لا يغيب عن المحاكم ايضاً. فالذوات يحصلن على معاملة خاصة. وقد ينقلب السحر على الساحر، اي على الرجل ان كانت امرأته ميسورة الحال او متحدرة من عائلة عريقة لها يد "طايلة" تحمل القضاة على غض النظر عن خصوصياتها، فيسارعون الى تبييض صفحاتهم ومساعدتها من دون ان تمس بأذى. أما الفقراء من النساء هناك فهن من يتجرعن العلقم ويدفعن ضريبة "التعتير".
وراء كواليس الشرعية تقع الكوارث، ويكثر الحديث عن "الرشاوي" مالية وجسدية، ينالها صاحب الحكم مقابل اعطاء الزوجة حقوقها او حق حضانة أولادها. الحقوق تبدو شبه معدومة، ومعاملات الطلاق تستغرق وقتاً طويلاً، خصوصاً في محاولات الصلح. تروي احدى النساء ان اقسى ما تعرضت اليه كان الفوقية والتعالي التي لاقتهما في المحكمة الشرعية. ففيما كانت تحاول ان تفسر وجهة نظرها للشيخ، كان جمع من الناس يقف وراءها ويستمع الى حكايتها. طلب منها الشيخ ان تنتظر خارجاً، فانتظرت اكثر من ثلاث ساعات ثم طلب منها ان تعود بعد اسبوع. مر الاسبوع ثقيلا، وعندما عادت، تكرر الامر. تكررت الاسابيع وطال الانتظار الى ان حصلت على ورقتها اخيراً ولم تستطع الحصول على حضانة ولديها لانهما تعديا السن التي تسمح لها بحضانتهما. وعندما حاول المحامي اللجوء الى محكمة الاستئناف، طالت القضية ايضاً وحصلت اخيراً على حق مشاهدة اولادها. لكن منحها ذاك الحق لم يأخذها الى بر الامان. القانون منحها حق المشاهدة ولكنه لم يمنع زوجها كم وتشويه صورتها أمام أولادها. تصف العدالة بالمنقوصة وتقول انها فقدت ايمانها بهذه القوانين التي تتستر تحت وجه العدالة وتحتضن بين جناحيها اسوأ الممارسات المجحفة.
امرأة أخرى تمكنت من احتضان اولادها ولكنها بالكاد حصلت على "نفقة" تمكنها من أن تعيلهم او تحصل على مسكن يليق بالحد الادنى للعيش. وحين حاولت توجيه الملامة للقاضي والشرح بان حالة زوجها المادية الميسورة تخوله ان يتولى مصاريفهم، قال لها القاضي "اذا ما عجبك، روحي غيري دينك". المرأة التي تحاول جاهدة ان تجد سنداً لها يريحها من عذاباتها او يمنحها حريتها وفق اطار الشرع والاخلاق الانسانية تجد نفسها امام نارين: نار "الاحبة المتزلفين" الذين يريدون اغراءها، ونار من يريد سلبها حقوقها او اطلاق احكام عشوائية عليها. فاي من هذه النارين اخف وجعاً؟
|