ثورة 25 يناير كان هدفها ضرب السلطوية، لكنّ هذه ليست سياسية فقط، بل اجتماعية وثقافية. من هنا اهمية مطاردة كل مظاهرها التي تشكل عائقاً امام تجسيد الحداثة كما عرفها الغرب.
ثورة 25 يناير هدفت في المقام الأول إلى ضرب قلاع السلطوية وهدمها تمهيداً لبناء الديموقراطية وفتح الآفاق الواسعة أمام الشعب كي يعبر عن نفسه حراً طليقاً من كل قيد. وإذا كانت السلطوية تشير إلى طبيعة بعض النظم السياسية التي تقوم على تقييد حرية المجتمع بشكل عام، وممارسة القمع السياسي بشكل خاص، إلا أنها لا تتعلق فقط بممارسات النخب السياسية الحاكمة، ولكنها أيضاً تنصرف إلى ممارسات بعض القوى الاجتماعية والثقافية، والتي قد تمارس القهر أيضاً ضد المجتمع نتيجة تبني رؤى مغلقة للحياة. ولعل أبرز مثال لهذه القوى محاولة بعض التيارات الدينية المحافظة والرجعية محاصرة دور المرأة في المجتمع، أو رفع شعارات الحلال والحرام.
ولو أردنا أن نلخص الهدف الرئيسي من هدم السلطوية في عبارة واحدة لقلنا أنها ترسيخ في الواقع لمقولات الحداثة كما عرفتها المجتمعات الغربية المتقدمة. وأهم هذه المقولات على الإطلاق ضمان حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم وحرية العمل السياسي، وأهم من ذلك تقنين مبدأ تداول السلطة. ولو ألقينا البصر على السمات الرئيسية للسلطوية كما مورست في مجتمعات شتى في الشرق والغرب على السواء، لاكتشفنا أن هذه السمات تتركز في عدد محدد من الظواهر.
ولعل أولى سمات السلطوية السياسية هي انفراد الطبقة الحاكمة المهيمنة باتخاذ القرار.وكان هذا هو الوضع في بلادنا حيث هيمن الحزب الوطني الديموقراطي على الساحة السياسية طوال ثلاثين عاماً كاملة من حكم الرئيس السابق مبارك، وذلك اعتماداً على انتخابات مزورة. وسمح هذا الوضع غير الديموقراطي للحزب الوطني أن يهيمن على عملية صنع القرار وتوجيهها ليس لمصلحة الشعب ولكن لمصلحة قلة من أصحاب النفوذ السياسي ورجال الأعمال المنتفعين من النظام، مما ألحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد القومي.
ومن هنا فثورة 25 يناير – كما ظهر من ممارستها منذ نجاحها بالقضاء على النظام السلطوي – تؤكد أهمية المشاركة الجماهيرية في اتخاذ القرار. قد تكون المشاركة شعاراً جذاباً في حد ذاته ولكنه في الممارسة قد يواجه مشكلات كبرى. وأهم هذه المشكلات السؤال الرئيسي الذي يدور حول من الذي يمثل الجماهير حقاً؟ هل هم طليعة الشباب التي قامت بالثورة، أم القوى السياسية التقليدية أيضاً التي انضمت الى ركب الثورة وأصبحت من مكوناتها؟ والمشكلة هنا أن ائتلاف الشباب بكافة أطيافه السياسية قد تختلف رؤاهم في التغيير عن رؤى القوى السياسية التقليدية سواء كانت يسارية أو يمينية.
وهكذا يمكن القول أنه مع الإجماع على أهمية المشاركة الجماهيرية في اتخاذ القرار يبقى السؤال كيف، في ضوء الاختلافات الإيديولوجية السائدة بين القوى السياسية. كما شهدنا الخلافات الكبرى حول التعديلات الدستورية. وقيل في تفسير النتيجة، والتي تمثلت في أن 77% قالوا نعم، أن هذه الغالبية أثرت على اتجاهاتها التيارات الدينية نتيجة خلط الدين بالسياسة في حين أن من قالوا لا هم من أنصار الطابع المدني الديموقراطي للدولة.
من هذا المثال تبين أنه سنجد دائماً فجوة بين الشعار الذي هناك إجماع عليه، وهو المشاركة في اتخاذ القرار، والتطبيق. والسمة الثانية، البارزة من سمات السلطوية هي التزييف المنهجي للوعي السياسي. ولعل أبرز مظاهر هذا التزييف إدعاء النظام السياسي في عصر مبارك ان الحزب الوطني الديموقراطي الذي يضم، كما زعم قادته، ثلاثة ملايين عضو كذبا، حزب الأغلبية!
وقد أظهر الواقع كذب هذا الإدعاء، لأن هذه الملايين المزعومة اختفت بعد نجاح الثورة، في حين أن حزب الغالبية المزعومة يظهر في الواقع أنه حزب الأقلية. كيف نواجه تزييف الوعي السياسي؟ ليس هناك من طريقة سوى تطبيق الشفافية صورة منظمة تقوم على تحقيقها مؤسسات منضبطة. على سبيل المثال هناك تساؤل حول ما هو الوزن النسبي للقوى السياسية في المجتمع؟ وليس هناك من طريقة لتقدير ذلك إلا بتأسيس مؤسسات مستقلة لقياس اتجاهات الرأي العام حتى تقدم للمجتمع صورة موضوعية عن الاتفاقات والاختلافات السياسية لكل تيار سياسي.
وفي مجال تقويم انجازات الحكومة – أي حكومة – لا بد من استخدام مؤشرات كمية وموضوعية تصاغ بطريقة علمية وتطبق بكل موضوعية حتى لا تبيع أي حكومة الأوهام للجماهير عن مدى التقدم والازدهار الذي تم، ويكفي بهذا الصدد أن نشير إلى أكاذيب أمين التنظيم في الحزب الوطني الديموقراطي، الذي دأب على نشر الأكاذيب التي تشير إلى تقدم الأحوال الاقتصادية والاجتماعية اعتماداً على أرقام مزيفة، أو نتيجة تأويلات منحرفة لأرقام صحيحة. وذلك مثل الاستدلال على شيوع الرخاء في المجتمع بالاعتماد على عدد من يملكون تليفونات محمولة، أو عدد من يتعاملون مع الإنترنت. والسمة الثالثة، من سمات السلطوية السياسية هي الإقصاء القمعي للخصوم السياسيين، كما مارس النظام السياسي في عصر مبارك إقصاء الشيوعيين والإخوان المسلمين على وجه الخصوص. وليكن شعار الثورة الأساسي هو لا إقصاء بعد اليوم، بمعنى ضرورة إتاحة الفرصة لكل القوى السياسية يمينية كانت أو يسارية بالعمل السياسي ولكن في حدود الدستور والقانون. وكما رأينا في الإعلان الدستوري للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وكذلك في القانون الخاص بالأحزاب السياسية هناك حظر كامل على تشكيل أحزاب فئوية أو دينية.
والسمة الرابعة، للسلطوية هي وضع القيود على حرية التفكير سواء من قبل النظام السياسي الحاكم أو من قبل بعض معاقل السلطوية الفكرية الدينية على وجه الخصوص. السلطة السياسية الحاكمة تضع القيود على حرية التفكير بحجة ضمان استقرار المجتمع، والتيارات الدينية المرجعية تمنع حرية التفكير تحت شعارات الكفر والإيمان لوقف عملية التفكير وتجميدها.
والسمة الخامسة، من سمات السلطوية السياسية هي وضع القيود على حرية التعبير بفرض الرقابة المسبقة أو اللاحقة على كل الإنتاج الفكري والفني، وسواء تم ذلك من خلال الرقابة الحكومية أو من قبل بعض التيارات الدينية الرجعية من طريق استخدام آلية «الحسبة» للاعتراض على بعض الإنتاج الفكري أو الفني. ولمواجهة هذه الممارسات السلبية لابد من إطلاق حرية التعبير في حدود الدستور والقانون. والسمة السادسة هي وضع القيود العنيفة على حرية التنظيم في تشكيل الأحزاب أو تكوين النقابات المهنية أو تأسيس التكتلات الاجتماعية، وليس هناك شك في أن الوسيلة المثلى لمواجهة ذلك هي ضمان حرية التنظيم في حدود الدستور والقانون.
وأخطر مظاهر السلطوية السياسية على الإطلاق هو تجميد مبدأ تداول السلطة. وتجميد تداول السلطة لا يقتصر فقط على المجال السياسي. بل امتد أيضاً الى مجال القيادات في كل المجالات، مما سد الطريق أمام الشباب الذين منعوا من المشاركة في إدارة البلاد وإدارة الشأن العام. بكلمة واحدة تداول السلطة بكل أنواعها، هو الذي من شأنه القضاء النهائي على تقاليد السلطوية السياسية، مما يفتح الطريق أمام المجتمع حتى يتطور وفقاً لرؤية استراتيجية عصرية تقوم على ضمان الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية على السواء.
(القاهرة – باحث مصري)
|