الأحد ٨ - ٦ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون ثاني ٣١, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
عن سؤال الضرورة في ثورات الربيع - وحيد عبد المجيد
يقارن بعض من تصدمهم الأوضاع الراهنة في البلدان التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي بين هذه الأوضاع وما كانت عليه الحال حتى بداية 2011. ويسألون عن جدوى الثورات، ويصل كثيرون منهم إلى أنها لم تكن ضرورية.

يثير ذلك جدلاً حول ماهيتها، وهل هي شعبية فعلاً أم مؤامرات دُبرت بليل. ويزداد هذا الجدل ويحتد في مصر بخاصة، كلما حلت ذكراها في مثل هذا الوقت سنوياً.

وفضلاً عن أن الثورة عملية تاريخية ممتدة يصعب تقويمها في سنواتها الأولى، تكمن مشكلة «المنهج» المتضمن في هذا السؤال وما يثيره من جدل في أن ثورات الربيع لم يكن فيها اختيار أصلاً لكي نبحث في صحته أو خطئه، وبالتالي في ضرورتها أو عدم ضرورتها.

لم تندلع هذه الثورات نتيجة نقاش من النوع الذي ينتج أسئلة في غير محلها، ولا إثر اقتراع عليها. فالثورة الشعبية، التي تختلف عن الانقلاب بعفويتها وعدم وجود تنظيم يقودها وقد «يتآمر» للاستيلاء على السلطة، تندلع نتيجة تراكم عذابات شعوب أُغلقت في وجوهها أبواب الإصلاح كافة.

لذلك يصبح السؤال عما إذا كانت هذه الثورات ضرورة غير ذي معنى. فلم يضع أحد أصلاً خطة لها، ويحدّد «ساعة الصفر»، ويسبقها بإعداد «البيان الرقم 1» وتشكيل مجلس لقيادتها يستطيع السيطرة على البلاد فور اندلاعها.

يعيدنا هذا السؤال إلى بداية الجدل الفكري حول مفهوم الثورة الشعبية بمعناها المحدد الذي يختلف عن الانقلاب العسكري، أو «الانقلاب الثوري» ذي الطابع الشمولي بشكليه اللينيني والخميني وغيرهما. فقد بدأ هذا الجدل بمناسبة كتابين أصدرهما عقب الثورة الفرنسية مباشرة الفيلسوف المحافظ إدموند بيرك والمفكر الليبرالي توماس باين: أولهما «تأملات في ثورة فرنسا» (1790) والثاني «حقوق الإنسان» (1791).

لم يتخذ بيرك موقفاً مناهضاً بالمطلق للثورة الفرنسية، بخلاف الشائع. فقد كان يعرف أنه لا معنى لأن يرفض تطوراً كبيراً حدث في غياب الإصلاح الذي فضّله على الثورة. ويمكن اختزال خلاصة أطروحته في ثلاث أفكار: الأولى أن الإصلاح أفضل من الثورة. وهذا ما لا يختلف عليه عاقلان، إذا كان لنا الحق في أن نعد «الأناركية» أقل عقلانية.

والثانية أن الثورة تُحدث اضطراباً عميقاً في المجتمع، وتؤدي إلى معاناة قد تزيد عما تسببه الأوضاع التي تندلع احتجاجاً عليها. وهذا أيضاً صحيح، ولم يختلف فيه باين. لكن الخلاف الذي ما زال مستمراً بين المحافظين والليبراليين يتركز على ما بدا أن بيرك يميل إليه، وهو أن يتحمل الناس أوضاعاً مؤلمة حتى إذا لم يتيسر إصلاحها. وبدا، في ميله هذا، مُنكراً «الحقوق الطبيعية» التي كان باين يعدها مصدر حقوق الإنسان، ويرى مثل معظم فلاسفة التنوير أنها تشمل الحق في الثورة حين تُخل السلطة بالعقد الاجتماعي، وتصر على ذلك حتى النهاية.

أما الفكرة الثالثة في أطروحة بيرك فعن ضرورة الانحياز إلى الإصلاح حين يبدو أن ثورة قد تندلع. لكن بيرك لم يكن واضحاً في شأن المقصود بالانحياز، ولم يقر أن السلطة التي لا تُصلح أوضاعاً أفسدتها هي المسؤولة عن اندلاع أية ثورة ضدها، بخاصة حين تواصل إنكار الواقع والرهان على سياسات وصلت إلى طريق مسدود.

ولعل هذه الفكرة هي الأكثر ارتباطاً بالسؤال عن ضرورة اندلاع ثورة من عدمه، لأن تحديد العلاقة بين الإصلاح والثورة يجعل السؤال في غير محله. فالثورة لا تحدث عادة إلا عندما يبلغ التدهور ذروته، وينعدم الأمل تماماً في حدوث أي إصلاح يوقف التدهور. ويحدث ذلك سواء كانت مقدمات الثورة ظاهرة أو مخفية تحت سطح مجتمع يبدو ساكناً في ظاهره، فيما أعماقه تتحرك وربما تغلي كما لو أنه بركان غضب يختمر تحت السطح. فلا يتيسر الا لسياسيين ذوي بصيرة وباحثين مدققين ملاحظة اختمار الثورة في طبقات عميقة من وجدان المجتمع وعقله.

والثورة، بهذا، ليست اختياراً بين بدائل في ظرف طبيعي، بل نتيجة طبيعية لمقدمات سبقتها على مدى زمن يكون طويلاً في الأغلب الأعم. وهي، في حال الثورات العربية كما في غيرها، لم تكن ضرورية بل كانت تطوراً اضطرارياً، أي اضطر إليه الناس حين أُوصدت أبواب الإصلاح كلها، وقيل عمن كانوا يدعون إليه في مصر مثلاً «خلّيهم يتسلّوا»، في اطار إنكار السلطة واقعاً كان يُنذر بأن الجمر تحت الرماد وفق التعبير الذي استخدمه كاتب هذه السطور في خاتمة كتابه «التغيير طريق مصر إلى النهضة» (2005)، إذ كتب: «خلق الجمود وغلق أبواب الإصلاح جمراً تحت الرماد. هذا الجمر يمكن أن يتقد ويتأجج، ويمكن أن يُطفأ. وليس غير الإصلاح سبيلاً إلى إطفائه».

والثورة، بهذا، وكأي رد فعل اضطراري، ليست مفضلة ولا مرغوبة، وإلا كانت خياراً أول وليست ملجأ أخيراً بعد فقد أي أمل بأي اصلاح. لكنها في المقابل ليست مما يمكن رفضه أو قبوله، سواء قبل اندلاعها أو بعده. فهي، بحكم أخص خصائصها، لا موعد لها ويتعذر توقع وقت اندلاعها ناهيك عن تحديده حتى في حال ظهور مقدماتها بعد بلوغها أعلى مرحلة في تراكمها. لذلك لا يستطيع أحد الاستعداد، ناهيك عن الإعداد، لها ووضع خطة أو حتى تصوّر لمسارها وكيفية التعاطي مع الاضطرابات التي تقترن بها، وتنطوي لا محالة على أشكال من الفوضى، وقد تقود إلى حرب أهلية كما حدث في سورية وليبيا. وإذا كان مستحيلاً سؤال الناس قبلها هل يريدونها أم لا، فلا معنى بالتالي للاختلاف على ذلك بعدها.

وينتمي الربيع العربي في مجمله إلى هذا النوع من الثورات الشعبية، التي تظهر التراكمات المؤدية إلى بعضها فيما تظل مقدمات بعض آخر منها مكتومة تحت سطح محكوم بقبضة من حديد. لكن أحداً لا يستطيع في الحالين توقع وقت اندلاعها، بخاصة حين يبدو أن المجتمع تعوّد على استسلام طويل لهيمنة سلطوية طاغية. لذلك يكون اندلاعها مفاجئاً، ومن ثم تلقائياً، على نحو لا مجال فيه للاختيار في شأنها، ولا للسؤال تالياً عما إذا كانت ضرورية أو غير ضرورية.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة