لأن موجة الاحتجاجات انفجرت في تونس، فقد بات يُنظر إليها من زاوية مختلفة عن أنواع الحراك الاجتماعي، محدودة الأهداف. وهذه واحدة من ضرائب تدفعها الدولة النموذج، نجاحاً أو إخفاقاً. ولا يمكن تحت تأثير التقادم تجاهل أن الشرارة الأولى لما عرف بالربيع العربي انطلقت من تونس.
ما يحدث في البلد الذي كان في وسعه أن يصبح «سويسرا شمال أفريقيا» لا يعدو أن يكون غضباً بطعم اجتماعي مرير. مثله يقع في مناطق عدة يستهويها النزول إلى الشارع. ولا أدل على ذلك من أن العالم اختار يوماً للاحتجاج في الشوارع أطلق عليه اسم عيد العمال. فيما تتواصل في دول أوروبية وغيرها مظاهر الاحتجاج ضد أوضاع غير منصفة. لكن ذلك لا يثير أي مخاوف. طالما أن التظاهرات السلمية المشروعة تنتهي عادة بالفترة المحددة في الزمان والمكان، أو من خلال التزام الحكومات الاستجابة لطلباتها، وإن على مراحل.
ليس الشارع اكتشافاً جديداً في سلوك التقاليد الديموقراطية العريقة ومنهجيتها. إنها ثقافة وسلوك ومنهجية في إدارة الصراع يمكن أن تضيق الخناق أكثر على الحكومات بل تسقطها، من خلال استمالة الناخبين والتأثير في صناديق الاقتراع، لكنها لا تسقط الدول التي تظل قائمة بمؤسساتها التي تكفل تداول السلطة، من دون تمزيق النسيج الاجتماعي. وبسبب هذه العلاقة يصبح الرأي العام رقيباً ومؤثراً بسلطة غير مجردة، محورها التغيير الذي تصنعه صناديق الاقتراع.
اهتزت إسبانيا على وقع الأزمة الاقتصادية والمالية، واكتسحت جموع الغاضبين شوارع العاصمة مدريد. ونتج من ذلك أن النخب السياسية التقليدية باتت تتوجس من مزاحمة جيل جديد من السياسيين والأفكار. بل إن الأزمة الحكومية الراهنة لا تنفصل عن جوهر الوضع الجديد الذي كيفته قناعات الناخبين. الحالة نفسها بفارق في الحدة انسحبت على الأوضاع في اليونان. وحمل غضب الشارع تيارات سياسية جديدة. وكل ذلك ينصهر في جدلية تجاذب سياسي واقتصادي واجتماعي لا يحيد عن إطاره العام.
في تجارب عربية، أثناء الحراك وخلاله وعبر تداعياته، تهاوت أنظمة وانهارت دول، فانحبست الأنفاس حيال المجهول الذي يهدد بالمزيد من أشكال الفوضى والاضطرابات. ولعل في مقدم مسوغات الأزمة التونسية الناشئة أن رقعتها توسعت جغرافياً، لكن سقفها حافظ على البعد الاجتماعي في جوانبه التي تطاول معضلة بطالة الشباب واتساع الفوارق بين المجالات والفئات، وتجديد دعوات الحرب على الفساد.
كل ذلك من شأنه أن يمدد المسافة بين تطلعات الثورة وإمكانات تحقيق أهدافها المتمثلة في تكريس العدالة الاجتماعية، باعتبارها مطلباً لا يمكن القفز عليه. غير أن العبور من الفترة الانتقالية إلى التدبير العادي لأمور التنمية، يتطلب تعزيز حظوظ الاستقرار. ففي القاعدة الذهبية أن الاستثمارات التي تجلب الثروة وتنشط الحركة الاقتصادية والتجارية، تظل رهن الاستقرار. وهو يتطلب تعميق الثقة في الاختيارات المتاحة.
تحديان يواجهان مسألة الاستقرار في تونس، أحدهما ولعله الأخطر يكمن في تزايد التهديدات الإرهابية والتحديات الأمنية في مناخ أكثر اضطراباً، إذ باتت عدوى الأزمة الليبية تفرض نفسها على بلدان الجوار. أما الثاني فيطاول المسألة الاجتماعية التي يصعب التحكم في مسارها، من دون دعم سياسي. ولا يبدو أن الوضع السياسي الذي يجتازه حزب «نداء تونس» يشجع على الخروج من النفق. أقله أن الرهان على معاودة بناء الاستقرار ليس منفصلاً عن شروط التطبيع والأوضاع السياسية والحزبية.
لا بأس إن واجهت التجربة حاجز الباب المغلق، فالأهم أن يصبح التداول السلمي على السلطة اختياراً لا رجعة فيه، ولا يمكن الفضاء التونسي أن ينفتح على دعم الأشقاء والأصدقاء، إن لم يبدأ بدعم تجربته داخلياً. |