واشنطن – من هشام ملحم: القاهرة والعواصم الأخرى – الوكالات:
انتقل الرئيس المصري حسني مبارك أمس الى الهجوم في ما قد يكون معركته الاخيرة ضد من يطالبون بتنحيه في الداخل ومن يحضونه في الخارج على بدء النقل السلمي للسلطة فوراً. فقد حول متظاهرون مؤيدون لمبارك ميدان التحرير في وسط القاهرة حيث يعتصم منذ تسعة ايام المتظاهرون المطالبون بتنحيه، ساحة حرب حقيقية في مشهد اعاد الى الاذهان القمع الدموي للمطالبين بالديموقراطية في ساحة تيان آن مين ببيجينغ عام 1989. واستمرت الاشتباكات طوال ساعات النهار وحتى ساعة متقدمة من الليل امام بصر الجيش وسمعه من غير ان يحرك ساكنا، مكتفيا باصدار بيانات تدعو المتظاهرين من الجانبين الى العودة الى منازلهم.
وترافقت التطورات الميدانية التي اسفرت عن سقوط ثلاثة قتلى واكثر من 1500 جريح، مع اعلان نائب الرئيس المصري عمر سليمان ان السلطات لن تتفاوض مع المعارضة الا في حال وقف التظاهرات، الامر الذي رفضته المعارضة التي تستعد لتظاهرات ضخمة غداً في ما تطلق عليه "جمعة الرحيل"،
الى ذلك، أعلنت وزارة الخارجية المصرية ان القاهرة ترفض الدعوات الى البدء فورا بعملية انتقال السلطة. لكن هذا لم يمنع تكرار مطالبات اوروبية واميركية لمبارك بالشروع في الاصلاحات الآن، في ما اعتبر استعداداً من دول اوروبية في مقدمها فرنسا وبريطانيا والمانيا للتخلي عن التعامل معه. وقال مراقبون ان القمع الدموي للاعتصام قد حد من التعاطف الذي كان ابداه بعض القطاعات الشعبية البسيطة مع مبارك اثر خطابه ليل الثلثاء، والتي نظرت بمرونة الى مسألة بقائه في السلطة بضعة اشهر الى حين استكماله ولايته.
وأفادت مصادر في المعارضة المصرية ان رجال اعمال مقربين من مبارك ونجله جمال بينهم محمد ابو العينين وابرهيم كامل وعددا من نواب الحزب الوطني الحاكم ا عدوا خطة التحرك للمتظاهرين المؤيدين لمبارك والذين قالت انهم يضمون في صفوفهم بلطجية وخارجين على القانون وعناصر من الامن المركزي والشرطة السرية. واضافت ان هؤلاء هم الذين انقضوا على المعتصمين في ميدان التحرير مستخدمين السلاح الابيض والخيول والجمال. واشارت الى ان رجال الاعمال مارسوا الابتزاز مع العمال المستخدمين لديهم كي يشاركوا في التظاهرات المؤيدة لمبارك سواء في القاهرة او في المدن المصرية الاخرى.
وروى شهود عيان ان المؤيدين للرئيس المصري الذين واصلوا القاء الزجاجات الحارقة والحجار على المعتصمين حتى ساعة متقدمة أمس، يستعدون لشن هجوم واسع على ميدان التحرير صباح اليوم من اجل وضع حد للاعتصام. وكانت الاشتباكات التي تركزت بين الجانبين قرب المتحف المصري المجاور لميدان التحرير قد ادت الى حريق في حديقة المتحف.
"الآن تعني الآن" وشددت الولايات المتحدة ضغوطها العلنية وغير العلنية على مبارك للتعجيل في رحيله عن السلطة من طريق الشروع في عملية انتقالية سريعة، وشددت على ان ما عناه الرئيس باراك أوباما في كلمته مساء الثلثاء من ان عملية الانتقال السلمي للسلطة يجب أن تبدأ "الآن" تعني أن كلمة "الآن قد بدأت أمس" وأن "الآن تعني الآن" وليس الانتظار كما يريد مبارك الى ايلول المقبل. وسارعت واشنطن الى التنديد بأعمال العنف "المشينة" والمقلقة ضد المتظاهرين السلميين والتي طاولت عددا من المراسلين والصحافيين العرب والاجانب والتي قامت بها عناصر لمح المسؤولون الاميركيون الى أنها تابعة للسلطات المصرية، وذلك على خلفية تسارع الاتصالات بين المسؤولين والعسكريين في البلدين، كان منها اتصال بين وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والنائب الجديد لمبارك عمر سليمان.
وصرح الناطق باسم البيت الابيض روبرت غيبس إن أوباما وادارته "يدينان بقوة العنف المشين" الذي شهدته شوارع القاهرة، "وطبعا اذا كانت الحكومة تقف وراء هذا العنف، فان عليها إيقافه فورا... هذه هي رسالتنا لهم". وكرر القول إن أحداث الاربعاء تؤكد ما شدد عليه أوباما مساء الثلثاء في كلمته وهو "ان وقت نقل السلطة قد حان، وهذا الوقت هو الآن. الشعب المصري يريد ان يرى التغيير، ويريد ان يرى التقدم... أعتقد ان التغيير يجب أن يأتي الى القاهرة. التقدم والتغيير يجب ان يأتيا الى مصر، وهذا كله يجب أن يحدث بسرعة".
وسئل أن يحدد ما يعنيه بكلمة "الآن" فأجاب: "الآن تعني امس، لأننا عندما قلنا "الآن" فاننا عنينا أمس… الآن بدأت امس" وذلك في إشارة الى خطاب أوباما الثلثاء. وجدد دعوة أوباما المصريين الى ضبط النفس ونبذ العنف، قائلا: "ومن الضرورة القصوى ان يتوقف العنف وان تبدأ عملية الانتقال التي تحدثنا عنها ليل أمس فورا".
وفي مؤشر لكون المكالمة الهاتفية بين أوباما ومبارك الثلثاء اتسمت بالفظاظة، قال الناطق انها كانت "صريحة ومباشرة، ومن دون التطرق الى مضمون ما قيل، فان الرسالة التي سلمها الرئيس الى الرئيس مبارك كانت: لقد حان وقت التغيير". وأوضح ان واشنطن لم تتخذ حتى الآن قرارا في شأن قطع المساعدات عن مصر والبالغة أكثر من مليار ونصف مليار دولار، وأنها لا تزال قيد المراجعة.
وأفاد ان الاتصالات مستمرة بين الطرفين وعلى مختلف المستويات، وأن الاتصالات التي أجرا ها وزير الدفاع روبرت غيتس مع نظيره المصري المشير حسين طنطاوي ساهمت في ضبط الوضع. كما اتصل رئيس هيئة الاركان الاميركية المشتركة الاميرال مايك مولن أمس بنظيره المصري الفريق سامي عنان وناقشا فيها الوضع، فأعرب مولن عن ثقته بقدرة القوات المصرية على ضمان الامن في البلاد بما فيها منطقة قناة السويس.
واعترف غيبس ان التطورات تتلاحق بسرعة مدهشة، "ونحن نواجه التاريخ وهو يصنع". وقال ان حكومته تخطط للاحتمالات المختلفة مشيرا الى وجود لجنة متابعة مؤلفة من مسؤولين بارزين. ورفض وصف مبارك بأنه "ديكتاتور" واكتفى بأن "الادارة تعتقد ان امام الرئيس مبارك فرصة لان يبين للعالم من هو بالضبط من خلال بدء عملية الآنتقال الذي توجد له حاجة ملحة في بلده ومن أجل شعبه". وقال ان حكومته تتوقع ان تلتزم أي حكومة جديدة في مصر المعاهدات التي وقعتها من الحكومات السابقة، وذلك في اشارة الى معاهدة السلام مع اسرائيل.
وصرح الناطق باسم وزارة الخارجية فيليب كراولي بأن الوزيرة كلينتون شددت خلال مكالمتها الهاتفية مع سليمان "على ادانتنا للعنف، وشجعت الحكومة على محاسبة المسؤولين" عن العنف في ميدان التحرير، قائلا إن حكومته "لا تعرف هوية الفاعلين".
وقالت مصادر أخرى مطلعة إن كلينتون أكدت مجددا جدية واشنطن واصرارها على موقفها حيال بدء عملية النقل المنظم والسلمي للسلطة وإخراجها من يد مبارك ورفضها بقاءه في السلطة ثمانية أشهر تكون فيها مصر والعلاقات الاميركية - المصرية معرضة لمختلف الاهتزازات والتحديات التي لا يمكن الآن التكهن بمدى خطورتها.
وشدد كراولي على ان الرسالة الاميركية الى حكومة مبارك الآن هي أن "الاجراءات (لنقل السلطات) يجب ان تبدأ الآن والحكومة لا تستطيع ان تقول اليوم ليس هو اليوم المناسب، او غدا ليس هو اليوم. يجب ان يكون هناك شعور بالالحاح. يجب ان يكون هناك حوار وطني" يشمل مختلف أطياف الشعب المصري.
وقال مسؤول أميركي كبير ان الاشتباكات بين أنصار مبارك ومعارضيه قد تقنع الجيش المصري بأنه يتعين عليه الضغط على مبارك لاتخاذ خطوات اضافية. وأضاف: "نعتقد ان مناقشات تجري داخل الدائرة القريبة من الرئيس مبارك في شأن هذه المسألة، وفي شأن هذه الحقيقة بأنهم تحركوا لكنهم لم يتحركوا الى مدى بعيد ما يكفي او سريعا ما يكفي... أعمال العنف في الشوارع والموقف الصعب الذي تضع الجيش فيه، قد تقنع الى حد كبير الجيش بأن شيئا ما لا بد من القيام به وانه قد يمارس ضغوطا من جانبه على الرئيس مبارك. لا اتصال بـ"الاخوان"
الى ذلك، أكد مسؤول اميركي رفيع المستوى ان السفارة الاميركية في القاهرة اجرت اتصالات مع عدد كبير من شخصيات المعارضة المصرية منذ بدء الاحتجاجات، نافيا اجراء اي اتصال مع جماعة "الاخوان المسلمين" من غير ان يوضح السبب.
بين ويزنر ومبارك وأفادت مصادر مطلعة في القاهرة، ان المبعوث الاميركي الخاص الى مصر السفير السابق فرانك ويزنر الذي التقى مبارك صباح الثلثاء طوال ساعتين، عرض على الرئيس المصري ان يذهب معه على متن طائرة الى الولايات المتحدة او بريطانيا بعد ان يفوض سلطاته الى سليمان بدعوى اجراء فحوص طبية، وان لا تبدو عملية الخروج بمثابة هروب او في صورة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
وقالت ا ن ويزنر ابلغ مبارك، الذي يرتبط معه بصداقة قديمة تعود الى الايام التي كان فيها ويزنر سفيرا في مصر، ان مثل هذا السينايو يتطلب نقل السلطة فورا، وانه في تقدير الولايات المتحدة ان النظام قد انتهى وقد لا تتوافر مثل هذه الفرصة اذا زادت الامور تعقيداً.
واوضحت ان مبارك رد بأنه لا يستطيع تنفيذ الاقتراح الاميركي الان وطلب مهلة حتى المساء قائلاً انه يرتب خطة محددة مع مستشاريه وقال اعطوني فرصة للتنفيذ. لكن المسؤولين الاميركيين فوجئوا بمضمون الخطاب الذي القاه مبارك مساء الثلثاء والذي لم يكن متوافقا مع الانطباع الذي اعطاه لويزنر. واشارت المصادر الى ان ويزنر الذي غادر القاهرة أمس، سافر محبطا، معتبرا ان هناك حقائق على الارض لا يستشعرها مبارك.
سليمان والمعارضة وكان سليمان اتصل ببعض الشخصيات المعارضة في اليومين الاخيرين وعرض عليها افكارا تتضمن ان يتخلى مبارك عن كل شيء يتعلق بالشؤون الداخلية الى حين انتهاء ولايته في ايلول. وسأل المعارضون عن الضمانات لهذا العرض، فرد عليهم سليمان بأن ما يعرضه هو مجرد أفكار.
وأعد بعض الشخصيات خطة لتقديمها الى سليمان تنص على عدم التفاوض مع السلطة قبل تنحي مبارك، وأنهم يقبلون بسليمان خلال الفترة الانتقالية، كما انهم يقبلون بأن يترشح مع الآخرين في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وطالبوا بانهاء حال الطوارىء فورا وبتعديل المادتين 76 و77 من الدستور اللتين تضعان قيودا على المتقدمين للترشيح للرئاسة، فضلا عن المطالبة بتعديل المادة 78 التي أزالت الرقابة القضائية على الانتخبابات واستبدلتها بلجنة حكومية، الى ضمان حق الشباب في الاقتراع ببطاقة الهوية.
وقال المعارضون انهم يقبلون خلال المرحلة الانتقالية بأن يتولى أحمد شفيق رئاسة حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها المعارضة ولا تضم وجوها من الحزب الوطني الحاكم لا تكون مكروهة شعبيا، وأن ينفذ ما يتفق عليه ضمن جدول زمني وان يعلن عنه على أساس اتفاق سياسي. كما طالبت المعارضة بحل مجلسي البرلمان فورا باعتبارهما وليدي تزوير واستنادا الى طعون قضائية في اكثر من 95 في المئة من النتائج.
واقترحت المعارضة ألا تتعدى المرحلة الانتقالية الاشهر التسعة، أي موعد انتهاء الرئاسة الحالية. وقالت انه بعد انتخاب الرئيس يمكن تعديل الدستور كله. إلا ان الشخصيات المعارضة فوجئت باتصال من سليمان امس أبلغها فيه ان من الصعب التفاوض قبل وقف التظاهرات، الأمر الذي رفضته المعارضة. من جهة اخرى، أفادت مصادر ديبلوماسية في بيروت ان مبارك موجود منذ أيام في منتجع شرم الشيخ المصري وأنه لا يأتي الى القاهرة إلا لمهمات محددة ثم يعود الى هناك.
|