ما إن فتحت ثورة 25 يناير الباب أمام تحرير المجال العام من القيود حتى ظهر الاستقطاب الذي كان كامناً تحت السطح، وأنتج صداماً أدى إلى تغير تدريجي باتجاه تضييق هذا المجال والسيطرة عليه من أعلى مرة أخرى. واقترن هذا التغير بازدياد الميل إلى الإقصاء الذي بدأه «الإخوان المسلمون» عقب صعودهم إلى السلطة، وتحوله إلى نمط مُهيمن على التفاعلات السياسية. فعندما يتحول الصراع السياسي إلى معركة صفرية، تشتد حدة الميل الإقصائي ويرتبط في بعض جوانبه بنزعة استئصال متبادلة.
ولم تدرك السلطة الانتقالية التي أدارت مرحلة ما بعد 3 تموز (يوليو) 2013 درس التاريخ الذي يُعلّمَنا أن الإقصاء السياسي حين يبدأ لا ينتهي، إذ تتوسع دوائره، ويتواصل من دون حدود يقف عندها، ويحرم الوطن بالتالي طاقات وقدرات متنوعة وضرورية لتقدمه. ونسي من وجدوا في سياسة الإقصاء مصلحة لهم الحكمة المتضمنة في قصة «الثور الأبيض والثور الأسود»، فتوسعت دوائر الإقصاء تدريجاً وشملت الكثير من الألوان.
كان قطاع واسع من الشبان الثوريين الذين لعبوا دوراً رئيساً في الاحتجاجات التي أسقطت سلطة «الإخوان» أول ضحايا الإقصاء الذي بلغ ذروته في الانتخابات الطالبية الأخيرة في الجامعات، عبر شطب جميع الطلاب المهتمين بالسياسة، وليس فقط المنتمين إلى أحزاب. وعندما أسفرت المرحلة الأخيرة في هذه الانتخابات (اتحاد طلاب مصر) عن فوز طلاب مستقلين لا يريدون سوى أن يحافظوا على استقلالهم، أُلغيت النتائج بقرار «إداري».
وارتبط التوسع التدريجي للإقصاء بتفريط الأحزاب السياسية المدنية في دورها ووقوفها متفرجة في المعركة بين السلطة و «الإخوان»، بعد أن كانت هذه الأحزاب قد ملأت المجال العام في الفترة ما بين تأسيس «جبهة الإنقاذ» قبيل نهاية 2012 و3 تموز 2013. وكان الانسحاب الفعلي لهذه الأحزاب من المشهد مقدمة لتهميشها وفتح الباب أمام تعاطي أجهزة الدولة معها، كما لو أنها «زوائد دودية» في نظام حكم يُراد له أن يخلو من السياسة والمؤسسات التي تمارسها.
لذلك لم يكن مثيراً للاستغراب، في ظل توسع نطاق الإقصاء، أن تصل تداعياته إلى أحزاب وقوى وشخصيات قريبة من المكونات الرئيسة لنظام الحكم، بل كان يُعتقد أنها جزء لا يتجزأ منها. وبدأت مقدمات هذا التوسع في أجواء الارتباك الذي ترتب على ضعف إقبال الناخبين على الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في أيار (مايو) 2014، مقارنة بما كان متوقعاً.
فقد أُطلقت اتهامات متبادلة بين بعض أشد مؤيدي الرئيس عبدالفتاح السيسي، حين كان مرشحاً فيها، وأخذ كل منهم باتهام غيره بأنه إما «خان» هذا المرشح ولم يحشد الناخبين، أو «تآمر» عليه، أو تظاهر بدعمه علناً فيما كان سلوكه الفعلي مختلفاً.
وظهر ذلك في صورة أوضح في كثير من وسائل الإعلام الخاصة لأنها كانت جزءاً من هذه الحال. ونُسجت وقتها روايات عن شخصيات يفترض أنهم في الدوائر القريبة إلى نظام الحكم، وقيل إنهم لم يرتاحوا إلى ترشح السيسي، وأن بعضهم فضل ترشيح آخرين مثل الفريق أحمد شفيق الذي كان قاب قوسين أو أدنى من قصر الاتحادية في انتخابات 2012، ولكنه خسر أمام «الإخواني» محمد مرسي بفارق طفيف.
وشهدت الانتخابات النيابية التي أُجريت قبيل نهاية العام المنصرم استمرار الميل الإقصائي في ظل شعارات من نوع «حب مصر» و «دعم الدولة». وتم تشكيل «ائتلاف» يقوم على هذا النوع من الشعارات اعتماداً على نتائج انتخابات نُزعت منها السياسة إلا قليلاً، واستثماراً لحال برلمان حصل أفراد «مستقلون» على غالبية مقاعده على أساس عصبياتهم التقليدية وإنفاقهم المالي، ولا يجد ممثلو أحزاب عدة فيه سبيلاً أمامهم إلا الارتباط بهذا «الائتلاف» بدرجة أو بأخرى. وأصبح الخيار محصوراً بين اصطفاف في طابور من دون معرفة إلى أين يتجه، أو الإقصاء المقترن في بعض الأحيان بتشكيك في الولاء للوطن!
ويثير هذا الوضع مخاوف العقلانيين الذين يؤيدون نظام الحكم ويتحمسون للرئيس السيسي ولكن بمنهج نقدي، ويسعون إلى ترشيد الأداء عبر النصح والتنبيه إلى المزالق. وعلى سبيل المثال وصف أحد أبرزهم، وهو الكاتب والإعلامي إبراهيم عيسى، من يصنعون هذا المشهد في البرلمان ويضعون نظام الحكم في مأزق بسببه بـ «المِطبلاتية المطيباتية المُطمأنتية»، وحذر في 14 الشهر الماضي من «أن يتحول البرلمان إلى فقاقيع من صابون المبايعة والموالاة والتصفيق والهتاف...».
فقد أنتج المشهد الذي يحذر عيسى وغيره من تداعياته إقصاء قوى لا تقل في تأييدها لنظام الحكم عن «الائتلاف» الذي أغلق الباب أمامها، وبخاصة «التحالف الجمهوري» الذي أسسته المستشارة تهاني الجبالي واللواء حسام خير الله. وهناك أيضاً «تيار الاستقلال» الذي بذل قادته أقصى جهد لتأمين مكان له في أحد أضيق هوامش البرلمان، وائتلاف «الجبهة المصرية» الذي تصدره حزب يقوده الفريق شفيق من الخارج (حزب الحركة الوطنية).
وكانت إثارة الشكوك في «ولاء» شفيق مقدمة لإقصاء حزبه، فلم يحصل سوى على 5 مقاعد من أصل 596 في المجلس الجديد. وعبر عن هذه الحال الدكتور مجدي علام أحد قادة الصف الثاني في الحزب الوطني الحاكم سابقاً في مقالة نُشرت 17 الشهر الماضي وجاء فيها: «أصبح الفريق شفيق ومن ينتسب له أو يتعامل معه عدواً، عقاباً له على زلة لسانه عندما قال إنه سيشكل كتلة برلمانية».
وعلى رغم أن حزب المصريين الأحرار، وهو أحد أكثر الأحزاب دعماً لنظام الحكم، حصل على 65 مقعداً في المجلس (12 في المئة من إجمالي مقاعده) وتصدر الأحزاب الممثلة فيه، فقد طغى الشعور بالإقصاء على قادته. وعبر مؤسسه نجيب ساويرس عن ذلك بطريقة ساخرة عندما قال إنه مستعد لأن يحلف لهم على القرآن (وهو المصري المسيحي) إذا كان هذا كافياً لإقناعهم «بأننا نحب مصر مثلهم»!
وهكذا يتبين مجدداً، وعبر تجربة لم تنته فصولاً، أنه يصعب تحديد خط ينتهي عنده الإقصاء عندما يبدأ، لأنه ينطوي في كثير من الأحيان على نزعة إلى تصفية الحسابات في اتجاهات مختلفة. |