«وقال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». تبدو مفاهيم ومصطلحات من قبيل الوسطية والاعتدال والتطرف، واضحة ومحدّدة (تقريباً) في الثقافة الغربية، لكن لا يمكن اقتباسها في الشرق إلا باقتباس الفلسفة والفكرة المنشئة لها، إذ تبدو لدى فهمها في الخطاب الإسلامي السائد أو المتّبع مختلفة اختلافاً كبيراً، تحتاج إلى خطاب إسلامي جديد أو مختلف يستوعبها ويطبقها على النحو الذي تعمل فيه في بلاد المنشأ.
فمقياس الوسطية والاعتدال والتطرف هو الاجتهاد الإنساني السائد أو الغالب، أو العقد الاجتماعي المنظِّم لعلاقات الناس ومصالحهم، بمعنى أن التطرف هو الاختلاف عن العقد الاجتماعي السائد أو الخروج عليه، والوسطية هي الموقف الوسط بين اتجاهين أو فكرتين يجمع بينهما وإن كان مستقلاً أو مختلفاً عنهما، وفي ذلك ثمة افتراضات عدة أساسية وحاكمة تعمل في الغرب ولا تعمل في الشرق العربي والإسلامي، أو لم تعمل بعد. ويلتبس الفهم والتطبيق للمفاهيم على نحو يشبه استيراد السيارات من غير طرق أو قواعد للقيادة والمرور. الصواب في العقد الاجتماعي فكرة إنسانية نسبية ليست يقينية وحقاً نزل من السماء. الصواب هو الاجتهاد الإنساني في فهم الكمال وتمثّله في لحظة معينة. هو صواب ما دام لم تغيّر الغالبية رأيها أو موقفها.
لكن في غياب العقد الاجتماعي الإنساني ليس ثمة وسط أو تطرف! هناك صواب مطلق وخطأ مطلق، الصواب هو الحق الذي نزل من السماء، وما سواه باطل، وليس بعد الحق إلا الضلال، ويكون الاختلاف والصراع على الحق، أو بين الحق والباطل، حيث الحق هو الصواب الذي يعتقده أصحابه ومؤيدوه. ولا يمكن وصف هذا الحق بالاعتدال أو التطرف أو الوسطية. هو الصواب فقط، ويتبعه المؤمنون على أنه الحق الذي نزل من السماء والواجب اتباعه!
لذلك وببساطة ووضوح، فإنه لا يمكن الحديث عن تطرف واعتدال في غياب العقد الاجتماعي الإنساني. لا تصلح هذه المفاهيم والأفكار إلا في أنسنة الحكم والعلاقات. أما في ظل الاعتقاد بالصواب الإلهي والشامل والكامل والذي يصلح لكل زمان ومكان، وهو ما تؤمن به في عالم العرب والمسلمين الحكومات والمعارضات على السواء ولا فرق في ذلك بين أبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري وشيخ الأزهر وسائر علماء الشريعة ووزراء الأوقاف، فإن الخلاف أو الصراع ليس بين تطرّف واعتدال، لكنه بين الحق والضلال، أو الإيمان والكفر، وفي أخف وصف بين الصواب والخطأ.
وفي عالم المنشأ الإنساني لمفاهيم الوسطية والاعتدال والتطرف، فإن الوسطية بمعنى الوسط بين المواقف والاتجاهات ليست هي الاعتدال أو التسامح بالضرورة أو ليسا (الوسطية والاعتدال) دائماً شيئاً واحداً... أما إذا كان الوسط بمعنى الأفضل أو الصواب كما يُرى في عالم العرب والإسلام، فقد يكون ذلك في بعض الأحيان تطرفاً بمعنى الاختلاف عن السائد أو الغالبية، وأما الاعتدال إن كان يعني الصواب أو العدل فلا يعني ذلك بالضرورة أنه وسط بين أمرين أو أمور واتجاهات عدة... هو في اللغة العربية من الصواب والاستقامة، وفي الديموقراطيات هو الموقف السائد، وفي ذلك فإن الصواب قد تتبدّل مواضعه وحالاته بين اليمين أو اليسار، والحماسة أو الانسحاب أو التردد أو الإقدام أو المغامرة أو التحفّظ... لا يحكمنا في ذلك إلا العقد الاجتماعي أو اتجاه الغالبية في اللحظة التي نلتمس رأيها. وأما في غياب الديموقراطية، فإن الصواب أو الاعتدال هو الحق الذي نزل من السماء، والسماء وحدها تقول لنا ما الصواب، ولن يعرف الصواب أو يحدده واقعياً سوى السلطة المهيمنة، أو كما قال أبو العلاء المعري: تلوا باطلاً وجلوا صارماً وقالوا: أصبنا؟ فقلنا: نعم! * كاتب أردني |