الجمعه ٢٩ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ١٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الإرهاب وندُّه الحكوميّ - شبلي ملاّط
في يوم حقوق الإنسان العالمي، لا بدَّ من الأخذ بعلم تردّيها في مقابل تقدّم أسوأ أندادها: الإرهاب وإخوته.
 
تضطرنا الدقة اللغوية في المناسبة الى وصف الأمور على حقيقتها الفجَّة: خَصْمُ حقوق الإنسان في السياسة والقانون هو الإرهاب في شقّيه المتلازمين دوماً: إرهاب الفرد أو الجماعة من جهة وإرهاب الدولة في المقابل. الإرهاب والحرب على الإرهاب (بالإنكليزية (counterterrorism تعبيران للمفهوم الواحد.

ولئلا ننسى عمق هذه الحقيقة، نعود الى نشأة المفهوم في الثورة الفرنسية بإعلان الإرهاب سياسةً حكومية رسمية. في مساء الخامس من أيلول من عام ألف وسبعمئة وثلاثة وتسعين، أعلن النائب بارير أمام أعضاء مجلس النواب Convention Nationale الـ749 أنّ "الإرهاب على جدول الأعمال، la Terreur est à l'ordre du jour". وسبب اعتناق الإرهاب آنذاك سياسةً للجمهورية الفرنسية الفتيّة هو السبب نفسه اليوم. فعندما استعمل من كان معارضاً للدولة العُنفَ ضدَّها، استدرجَ ردَّها المدوّي في إطلاق الحكومة آلياتها الإرهابية باستعمال العنف المضاد لتدميره.

لا نزال على الحال نفسها قرنين وربع القرن بعد ذاك الإعلان الشهير. والدولة الممثَّلة عموماً بالسلطة التنفيذية تقوّض القوانين بإدارة ظهرها لما يحمي حقوق الإنسان في مركَّب دولة القانون. السلطة الإرهابية تقوم بتدبير بسيط ملخَّصُه إضعاف المنجزات التاريخية لحقوق الإنسان أو إزالتها. هذه كانت بداية الارهاب في فرنسا. بدأت حقبة الإرهاب الصغير Petite Terreur بقانون المتهمين Loi des suspects، سُحِب جرَّاءه حقّ المتهم في محاكمة عادية. وتبعتها حقبة الإرهاب الكبير Grande Terreur في قانون 22 بريريال 22 Prairial من العام الثاني للجمهورية (10 حزيران 1794)، الذي قوَّض أساس حقوق الإنسان بشكل شبه كامل عندما منع المتهم حتى من اللجوء الى محامٍ للدفاع. فقضى 40,000 مواطن فرنسي في الأشهر التي تبعت إقرار قوانين الإرهاب، في غياب تام لحقوق الإنسان التي لطالما جاهرت بها الثورة الفرنسية في تألقها الأول.

والعملية ذاتها تتكرّر اليوم أمامنا. فتآكل حقوق الإنسان بدأ بعد 11 أيلول، وهي على تراجع متنام في السياسة التي تبعت مجازر باريس في جمعة الثالث عشر من تشرين. وهذه السياسة المسماة رسمياً "بمعاداة الإرهاب"، تضرب حقوق الإنسان عند حلول كلّ جريمة جديدة بضربةٍ أكثر تقويضاً. ومع تواتر الجرائم الوحشية في عالم معولم، تصبح الحكومات الديموقراطية إرهابية يوماً بعد يوم، فيتراجع وضع حقوق الإنسان فيها باستدراج المجرم إرهاب الدولة المتنامي ووقوع السياسة الحكومية المتنامي في الفخ المنصوب لها.

وفي أميركا ما بعد 11 أيلول، اتخذ هذا التآكل شكله القانوني في تصديق الكونغرس على الباتريوت أكت Patriot Act. وتبع هذا القانون حربان في أفغانستان وفي العراق، كما الإعلانان الرسميان للحرب الكونية ضد الإرهاب GWAT, Global War on Terrorism، والحرب الكونية ضد "القاعدة"، والآن "داعش". وفي فرنسا، صرّح الرئيس الفرنسي أن الوطن "في حرب" غبَّ الجمعة الدمويّة، وأعلن حالةَ الطوارئ في اليوم التالي. ومذذاك تتوالى تعديات الشرطة وأجهزة الأمن على الناس في المناطق الفرنسية، خالعةً أبواب المنازل على الأهالي، تسوقهم الى الموت أو الحبس من دون حسيب قضائي ولا رقيب. أما دولياً فالمتهم بات هدفاً لأقسى العقوبات المدنية والجزائية. فمن بات موصوفاً "إرهابياً"وضع على لوائح سود من دون إنذار ومن دون أملٍ في القضاء المستقل. فلا يجوز له فتح حساب في المصارف، ولا يحق له أن يركب طائرة. ومتّهم الداخل حظُّه أكبر بكثير من الموصوفين "إرهابيين عالميين" الذين يعيشون في الخارج. أولئك، ومن دون إنذار، باتوا هدفاً للإعدام خارج أية مراجعة قضائية، عموماً من طريق طائرة من دون طيار، الدرونdrone، يحركِّها في تنفيذ الإعدام مأمورون في دولة تبعد آلاف الكيلومترات عنهم. وليس هنالك ولا حتى محاولة من حكومة هذه الدول الإدعاء بأنها قد تحاول توقيفهم بدل القضاء عليهم من دون إنذار.

البديل واضح. فمعاقبة الجاني بحسب الأصول ركيزة بديهية لحقوق الإنسان وواجهتُها الأولى. وهذه الأصول ثابتة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعاً ضرورياً للسلطة التنفيذية. وعلى الساحة الدولية تعني حقوق الإنسان الإبتعاد عن إعلانات الحرب التي تضع الجناة في خانة المساواة قانونياً وأخلاقياً، ونَبْذَ الحبس الجماعي وإعدام الدرون. وبديل حقوق الإنسان يعني أيضاً تمكين القاضي دولياً، والقاضي قادر على رفع عمله الى المستوى المطلوب متى ازدادت الثقة به وأعطي السبل الكفيلة بتطوير عمله لتحقيق العدالة على الساحة العالمية.

لا تعني فلسفة حقوق الإنسان العجزَ أو السّفهَ أو انعدامَ الفاعلية. فحقوق الإنسان ليست عقداً انتحارياً. هي عقد بين أناس أحرار تمكُّنهم من عدم الإنزلاق الى صورةٍ عكسيةٍ للمجرمين الذين يعتدون عليهم.

محام دولي وأستاذ في القانون، كتابه الأخير في فلسفة اللاعنف صدر عن دار أوكسفورد



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة