الفيديرالية بحسب الدستور العراقي جاءت موسّعة وصلاحياتها كبيرة ومفتوحة، على عكس صلاحيات السلطة الاتحادية التي جاءت مقتصرة على أبواب محدّدة.
في حال الخلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي في العراق فإن الأول يخضع للثاني وليس العكس، كما هي الغالبية الساحقة من فيديراليات العالم. وليس بمستطاع قيادة الجيش، بمن فيها القائد العام للقوات المسلحة، نقل أو تحريك قطعات عسكرية من الأقاليم واليها، إلاّ بموافقتها. وبحسب الدستور يحقّ للأقاليم فتح ممثليات لها في السفارات العراقية في الخارج لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية.
وبالقراءة القانونية فإن مثل هذا الوضع سيكون نواة لدويلة داخل دويلة، بغض النظر عن النيات. وطالما تكون هناك امتيازات وصلاحيات فلا يمكن والحال هذه إلاّ التمسك بها لأنها تكون "حقوقاً" مكتسبة، خصوصاً وقد تضمنها الدستور. وليس بعيدا عن ذلك "العلاقات الخارجية" و"الاقتصادية" وإشكالات النفط وتوابعه، من الإنتاج إلى التصدير، ومن التعاقد إلى التوزيع، وعلاقة السلطة الاتحادية بالسلطة الإقليمية، سواء بالتنسيق أو بالإشراف أو الموافقة.
وقد انفجرت هذه الأزمة منذ سنوات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، ولم تجد طريقها إلى الحل حتى الآن، على الرغم من محاولات نزع فتيل الأزمة. وأعتقد أن سبب هذه الإشكالية في الدستور هي في المادتين 111 و112.
وإذا كانت الحكومة الاتحادية تدير النفط والغاز من الحقول الحالية، فإن النفط والغاز غير المستخرج تتم إدارته من جانب الأقاليم بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الاتحادية، ومثل هذه النصوص كانت وراء تفسيرات وتأويلات مختلفة ومتنوّعة، بل متناقضة، فلإقليم كردستان تفسيراته، مثلما للحكومة الاتحادية تفسيراتها.
إن تلك الإشكاليات جعلت من مبدأ الفيديرالية، أو "الأقاليم" إما وسيلة للتحلّل من الهيمنة المركزية للدولة وذكرياتها المؤلمة، خصوصا للكرد، لاسيّما في فترة النظام الاستبدادي السابق، ولكنها قد تؤدي في الواقع العملي إلى إضعاف الدولة وسلطتها الاتحادية لحساب الأقاليم، وإما اعتبار الفيديرالية بعبعا مخيفا، باعتباره طريقا للانفصال والانقسام، الأمر الذي سيبقي على المركزية الشديدة الصارمة، وهو ما سارت عليه الدولة منذ تأسيسها، ولاسيّما خلال فترة النظام السابق. بل إن هذا الاتجاه يعتبر أي حديث عن الفيديرالية إنما يصبّ في تقسيم العراق، وقد يكون موحى به أو مدفوع الثمن من جهات خارجية مشبوهة. وترتفع درجة الشكوك في ظلّ وجود هيمنة طائفية وتمييز وتهميش، فضلاً عن الرغبة في الحصول على المزيد من المكاسب على حساب الآخر وتحت تبريرات مختلفة.
الفيديرالية التي رفعت شعارها الحركة الكردية منذ أوائل التسعينات وأيّدتها قوى يسارية وليبرالية ووطنية بشكل عام، كانت تطويرا لشعار الحركة الوطنية القديم منذ أوائل الستينات: "الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"، في إطار دعوة صريحة إلى تمثيل الشعب الكردي وتمكينه من تقرير مصيره في إطار الوحدة الوطنية العراقية كما اختارها. لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، فظهرت مشكلات قديمة وجديدة، بعضها عويص، خصوصا ما يتعلق بكركوك، أو بما سمّي المناطق المتنازع عليها. وكان الدستور الدائم امتدادا لقانون إدارة الدولة التي صدر في عهد بريمر، وقد نُقلت الكثير من مواد الأخير وأحكامه إلى الدستور الدائم، الذي جاء مليئا بالألغام، بحيث لم يشعر أي طرف بالارتياح، في حين أن الدستور هو تعبير عن الواقع السياسي والاقتصادي ودرجة التطور الاجتماعي ويعكس المصالح والأهداف المشتركة للفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأمر في الدستور العراقي اتخذ منحى مختلفا.
لذلك، وفي أكثر الأحيان يوضع الدستور على الرف ويتم الحديث عن التوافق والديموقراطية التوافقية خارج اللعبة الانتخابية (كقدر دائم لا مردّ له)، ولكن ما أن تدبّ الخلافات يتذكّر كل طرف الدستور، وإن كان يتعارض تماما مع ما يقول، لكنه يحاول الاستناد إليه من باب الزعم بتمسّكه باعتباره "أبا القوانين". ثم يُصار بعد ذلك للعودة لما يسمى بالتوافق من دون أي اعتبار لصندوق الانتخاب وإرادة الناخبين.
إذا كانت الفيديرالية الكردية تعبيراً عن حقوق قومية مشروعة ولها ما يبرّرها، والنظام الفيديرالي صيغة متطورة أخذ بها نحو 40% من سكان الكرة الأرضية، وشملت أكثر من 30 دولة، فإن تطبيقاته في العراق وبصيغته الملتبسة أوجدت تعارضات شديدة بين الفرقاء السياسيين من المشاركين في العملية السياسية ومن خارجها وعزّزت الشكوك بينهم.
فالقوى التي رفضت التصويت على الدستور لأنه يتضمّن مبدأ الفيديرالية، عادت واندفعت لقيامها تحت حجة عدم استفراد القوى الشيعية بالحكم وعزل السنّة وتهميشهم، وتلك واحدة من مفارقات الحياة السياسية العراقية ما بعد الاحتلال. وفكرة الأقاليم بما فيها "الإقليم السنّي" التي عارضها وتحفّظ عنها الكثير من القوى، بدت كأنها "مقبولة"، حيث أعيد طرحها بعد احتلال "داعش" الموصل، خصوصا بعد تشكيل "الحشد الشعبي" ودخوله المناطق ذات الغالبية السنّية.
والقوى الشيعية التي كانت متحمّسة للفيديرالية بعد الاحتلال، بدأت تتحفّظ عنها لا في المبدأ فحسب، بل في التطبيق أيضا، ولذلك وجدنا كيف تعامل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بقسوة مع المناطق الغربية والشمالية ذات الغالبية العربية السنية المطالبة بالفيديرالية، وكيف كانت النتائج: هيمنة "داعش"، وجزع فئات واسعة من السكان ما دفعها لعدم اتخاذ موقف من استيلاء "داعش" على الموصل كأن الأمر لا يعنيها. لكن بعد حين شعرت هذه الفئات بخذلانها، إثر هيمنة "داعش" وفرضه نظاماً سياسيا واجتماعيا ودينيا متشددا ومتعصبا خاصا به وخارج سياق التطور التاريخي.
أما الكرد فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتعبير عن كيانيتهم المستقلة، ويريدون قبل ذلك تحقيق أكبر المكاسب تمهيداً لإعلانها، خصوصا إذا ما توفّرت اللحظة المناسبة، وحصلوا على تأييد دولي وموافقة إقليمية ضمنية بعدم معارضة ذلك، علماً بأن مبدأ حق تقرير المصير يشكّل المنطلق القانوني والدولي لمشروعهم التاريخي.
وشهدت البلاد احترابات داخلية وإرهابا وعنفا منفلتا من عقاله، فضلاً عن استمرار النفوذ الخارجي، سواء على شكل اتفاقية للتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة منذ العام 2008، مع أن محاولات إبرام اتفاقية أمنية جديدة بعد نفاذ الاتفاقية الأولى في نهاية العام 2011 باءت بالفشل، الاّ أن النفوذ الأميركي لا يزال واسعا ومتحكّما ويظهر دوره في الأزمات والمنعطفات التي تمرّ بها البلاد، خصوصاً في ظل وجود اتفاقية مجحفة وغير متكافئة بين بغداد وواشنطن حسب اتفاقية فيينا حول "قانون المعاهدات" لعام 1969، حيث تم تغيير صفة الاحتلال، من الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي.
يضاف إلى ذلك النفوذ الإيراني القوي والمؤثّر، سواء على صعيد الحكم رسمياً، أو على صعيد العلاقة مع قوى أساسية في الحكم.
كاتب عراقي |