كشفت وتكشف الحرب في اليمن عمق الإهمال الطويل الذي عانى منه هذا البلد العربي على مدى عقود طويلة سابقة، وهو الإهمال الذي ضاعف نتائجه ومنعكساته الحكم الفاسد للرئيس السابق علي عبدالله صالح. الاختلالات وفجوات الضعف الكبيرة والهائلة والحالة الرثّة للاجتماع السياسي والبنية الاقتصادية الإفقارية التي «أنجزها» صالح، وفرت البيئة الخصبة للتدخلات الخارجية، وأتاحت لخطابات المظلومية الاوكسجين المطلوب، خاصة عندما تم تقديمه على خلفيات طائفية تم تجهيزها بكثافة خلال سنوات ماضية، وعبر آلاف الطلاب الذين أرسلوا إلى الحوزات الايرانية لحقنهم بأيديولوجية النقمة والانعزال والولاء العابر للحدود لـ «الولي الفقيه». خلال عقود الاختراق الايراني المنظم لليمن وتحويل أجزاء من الزيدية التي كانت متماهية مع المناخ السنّي وغير متصادمة معه في شكل نافر، استمر تحالف الإهمال العربي مع الفساد السياسي والمالي الذي فاقمه نظام علي عبدالله صالح.
أتاح الربيع العربي فرصة كبيرة لانتقال اليمن إلى مرحلة جديدة ينفض فيها ما قد تراكم من فساد، ويلفت إليه العرب وخاصة الجوار الخليجي لقطع سياسة الإهمال التي كانت قد سادت. بيد أن نتيجة الهبّة الشعبية العريضة وربيع اليمن لم تتناسب مع الانتفاضة الراقية التي أدهشت المراقبين بسلميتها وتمسكها بنهج اللاعنف، رغم التوفر الهائل للسلاح وتجاوز عديده عدد سكان اليمن. استطاع علي عبدالله صالح أن يظل في قلب المشهد السياسي اليمني، ولم تتمكن المبادرة الخليجية من إزاحته تماماً، وكان ذلك خللها الأكبر، إذ ظل صالح يتآمر على يمن ما بعد الربيع ويبدل تحالفاته، إلى أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه.
والآن وبعد الاستفاقة الخليجية لما كان قد تطور من اختراق ايراني متواصل في الخاصرة الجنوبية للجزيرة العربية برمتها، وعبر «عاصفة الحزم»، فإن ما هو مطلوب من الآن التفكير بعمق غير محدود في شكل ومستقبل يمن ما بعد الحرب. ويجب أن يستند التفكير الجديد إلى طروحات خلاقة تستفيد من أخطاء الماضي، وتعمل على إحداث تنمية حقيقية في اليمن ودمجه عضوياً واقتصادياً في الجوار العربي والخليجي تحديداً. من دون تفكير وتخطيط مسقبلي يعيد موضعة اليمن في شكل راسخ في الإطار العربي، ليس على مستوى الانتماء والولاء السياسي وحسب، بل ومستوى الروابط والمنافع الاقتصادية، فإن أي إنجاز يتحقق ضد الحوثيين وايران من ورائهم في اليمن سوف يظل ظرفياً وموقتاً. يجب أن تعالج الجذور والبيئات الإفقارية والمناخات المُولدة للتحريض الطائفي، بما يقود إلى عزل الجماعات الحوثية المتطرفة ذات الولاء التام لطهران، واسترداد الشرائح الأعرض لليمنيين الذين يمثلون الغالبية الكاسحة بعيداً عن تصنيفاتهم المذهبية.
على ذلك، فإن ما يجب التفكير فيه عملياً وجدياً ومنذ الآن هو مشروع مارشال لـ «يمن ما بعد الحرب»، يعتمد على أسس تُرسخ وتوثق الروابط السياسية والاقتصادية والتنموية بين اليمن وجواره العربي، وتعمل على إنجاز مستويات تنمية متسارعة تطال فئات الطبقة الوسطى والفئات الفقيرة وبحيث يستشعر اليمنيون كافة اختلافات حقيقية عن الماضي الذي احتكر فيه صالح والدوائر الانتفاعية والزبائنية المحسوبة عليه ثروات البلد وخيراته. لكن، ما معنى الدعوة إلى هذا المشروع، وما هي ضروراته، وألا تكفي مساعدة اليمن للنهوض بذاته فور انتهاء الحرب وترتيب حل سياسي؟
استدعاء فكرة و «نهج» مشروع مارشال لتطبيق نظير له في اليمن يستلزم منا أن نعاود التأمل في «مشروع مارشال» الأصلي، ونتذكر الأفكار التأسيسية الخلاقة التي قام عليها. أطلقت المشروع كما نعرف جميعاً الولايات المتحدة في سنة 1947 بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف إعادة تعمير اوروبا الغربية المحطمة والمتهالكة نتيجة سنوات الحرب الطويلة والتي استنزفت الموارد الاوروبية، سواء البشرية أو المادية. ورغم أن ميزانية المشروع لم تتجاوز آنذاك 13 بليون دولار، إلا أن هذا الرقم كان ضخماً وفق القيمة الظرفية، وكان كافياً لأن يغير وجه العالم ويعيد موضعة اوروبا على سكة النهوض والتنمية وتحدي الأخطار القادمة من الشرق الاوروبي. لكن، ما الذي دفع بالولايات المتحدة لإنفاق هذا المبلغ الضخم وهي الخارجة من الحرب أيضاً، لإعادة تنمية اقتصادات دول بعيدة عنها آلاف الأميال وتفصلها عنها مياه الأطلسي العريضة باتساعها؟
على رأس الاجندة الاميركية لمشروع مارشال لإعادة بناء اوروبا كان هدف دحر خطر الهيمنة السوفياتية الصاعدة، والتي سيطر نفوذها على شرق القارة مباشرة بعد انتهاء الحرب. أراد الاميركيون بناء اقتصادات قوية في اوروبا الغربية تستوعب معدلات البطالة الهائلة التي ورثتها تلك المجتمعات بعد الحرب، وأن تعيد بناء طبقتها الوسطى وتقلل من معدلات الفقر بحيث يخفت بريق الجذب الشيوعي والاشتراكي. في الوقت نفسه وبالتوازي مع ذلك الهدف، فإن إعادة بناء الاقتصاد الاوروبي في شكل قوي معناها بناء أسواق وقوة شرائية للصادرات الاميركية التي كادت تشعر بالاختناق في مرحلة ما بعد الحرب، وتبحث عن أسواق قوية وفيها طبقة وسطى مرتاحة وذات دخول معقولة. تكامل مشروع مارشال التنموي والاقتصادي مع مشروع حلف الناتو العسكري واشتغل الاثنان على إبقاء اوروبا الغربية متماسكة في وجه الاتحاد السوفياتي، ليس بقوة الجيش والأمن، لكن بفاعلية الازدهار الاقتصادي والتنمية الناجزة. لو أدارت الولايات المتحدة ظهرها لاوروبا بعد الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، وتسارع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي الذي أخافت قوته العسكرية في حقبة ما بعد الحرب، خاصة البرية، كل قوى الحلفاء مجتمعين، لوقعت أمانيا وفرنسا وبريطانيا تحت تهديد سوفياتي حقيقي.
استئناساً بذلك وبفاعلية النجاح الذي حققه مشروع مارشال الأصلي، من الممكن الإشارة إلى بعض المعالم الأساسية التي يجب أن يُصار إلى التفكير فيها منذ الآن في شأن يمن ما بعد الحرب:
أولاً، لن تنضبط أمور اليمن بعد الحرب إلا ضمن نظام أمن اقليمي يضمن عدم تدخل الدول غير العربية، وخاصة ايران، في شؤونه. والسبب أن مفهوم الأمن تجاوز التعريفات التقليدية له في عالم اليوم، وانتقل من المفهوم العسكري والسيادي الضيق ليشمل الأمن الاجتماعي والاقتصادي والإنساني. لا يمكن ضمان أمن طويل المدى حتى بأعتى القوى العسكرية إن كان الاقتصاد مختلاً والمجتمع منهكاً بالفقر والنقمة والإحباطات.
ثانياً، توازياً مع أية ترتيبات أمنية لا بد من مشروع تنموي شامل لليمن يكون هدفه رفع معدلات الدخل القومي ومعدل دخل الفرد وفي فترة قياسية، وبحيث يجفف كل منابع الانجذاب إلى المشاريع الخارجية التي تتغذى على الإحباطات الداخلية، ومشروع الإنهاض التنموي الشامل، الذي يمكن أن يكون «مارشالي» السمة، يجب أن يربط اليمن بجواره الخليجي في شكل عضوي.
ثالثاً، ترتيب نوع من العضوية الخاصة لليمن في مجلس التعاون الخليجي تكون مرتبطة بالمشروع التنموي، وتعمل على تقوية وتعزيز السوق اليمنية لاستيعاب القوى العاملة وتحويل السوق المحلي إلى فضاء جاذب وليس طارداً للأيدي العاملة.
رابعاً واستراتيجياً، يكون هدف المشروع «المارشالي» ليس تحويل اليمن إلى نطاق وحزام حماية للخليج وحسب، لأن هذا يعني النظر إلى اليمن نظرة وظيفية فقط، بل رفع مكانة اليمن واقتصاده ومجتمعه ودولته إلى مستويات فاعلية عليا. وفي حال انتقل اليمن من وضعه الحالي كدولة ضعيفة، وخرج من ضمن قوائم «الدول شبه الفاشلة» كما يصنفه البعض، وتحول إلى دولة فاعلة وقائمة على رجليها، فإن دوره العربي والاقليمي سوف يتطور تلقائياً ويقوم بالمساهمة الذاتية والاقليمية في حماية الأمن العربي والخليجي.
من دون ذلك، سوف يبقى اليمن خاصرة ضعيفة في جنوب الجزيرة العربية، تطمع فيه القوى الخارجية، وتستثمر الداخل المتهالك. ومن دون أن يتم التفكير والتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب من الآن، فإن الوقت لن يرحم، والأخطاء سوف تتكرر.
* أكاديمي وكاتب عربي |