الثلثاء ١٩ - ٨ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: تشرين الأول ١٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
روسيا وسورية - محمد سيد رصاص
منذ بطرس الأكبر (توفي 1725)، مؤسس الدولة الروسية الحديثة، كان الغرب هو المجال الرئيسي لتطلع روسيا حضارياً. وهذا التطلع، بالمعنى الثقافي ترافق مع توسع في السيطرة الجغرافية في الشرق والوسط الأوروبيين للقياصرة الروس، لكن التطلعات التوسعية الروسية لم تكن أوروبية فقط بل آسيوية أيضاً، في سكتين متوازيتين: آسيا الوسطى والقفقاس من جهة، ومنطقة المضايق: البوسفور والدردنيل. كانت «سايكس- بيكو» ثلاثية عملياً مع إضافة اسم سيرج سازانوف، وزير الخارجية الروسي، وكانت عين الروس على اسطنبول. فضح البلاشفة نصوص «سايكس - بيكو» بعد ثورة أكتوبر1917 وتبرأوا منها، لكن ستالين في الحرب العالمية الثانية استطاع اقناع تشرشل بأن الدفاع عن منطقة القفقاس أمام هتلر يتطلب وجود قوات سوفياتية في الشمال الغربي الإيراني، ولكن، عندما جرى تقاسم العالم بعد الحرب فإن زعيم الكرملين قايض إيران ببولندا، متخلياً عن جمهوريتي مهاباد وأذربيجان الإيرانيتين، اللتين أقامهما السوفيات هناك عام 1946.

دخل الروس إلى منطقة الشرق الأوسط عبر صفقة الأسلحة التشيكية لمصر عام 1955، وكان الدخول سورياً أيضاً عبر بدء تسليح الجيش السوري بأسلحة سوفياتية، وشهد عام 1957 صعود قوة الحزب الشيوعي السوري على وقع المساعدة السوفياتية للعرب في حرب السويس، وعملياً فإن صعود الشيوعيين السوريين كان عاملاً أساسياً في تراكض العروبيين نحو القاهرة لطلب الوحدة مع مصر خوفاً من وقوع دمشق تحت سيطرة خالد بكداش ورئيس الأركان عفيف البزري. بسبب دمشق، ثم بغداد ما بعد 14 تموز (يوليو) 1958، اصطدمت موسكو مع عبدالناصر الذي بدأ باعتقال الشيوعيين السوريين والمصريين منذ رأس عام 1959، وبدأ بتشجيع محاولات انقلاب العروبيين في العراق على حكم عبدالكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين، وصولاً إلى محاولة انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل في آذار (مارس) 1959.

تصالحت موسكو مع القاهرة عام 1964 حين ضمنت دمشق البعثية إلى جانبها ضد عبدالناصر، وحاولت مصالحتهما تحت جناحيها بعد انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966 اليساري البعثي بقيادة اللواء صلاح جديد، ولكن، كان تفضيلها لدمشق اليسارية، بالقياس لعبد الناصر الحذر دائماً من الشيوعيين، فتح أبواب سورية أمام السوفيات عبر مشاريع اقتصادية عملاقة كان منها سد الفرات، إضافة إلى الأسلحة السوفياتية ووجود الخبراء السوفيات. في عهد الرئيس حافظ الأسد منذ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، الذي انفتح على القاهرة والرياض ثم عام 1974 على واشنطن، لم تحدث قطيعة بين دمشق وموسكو، كما فعل الرئيس المصري أنور السادات الذي يمّم وجهه نحو واشنطن ثم تل أبيب. وعندما عارض السوفيات عام 1976 دخول القوات السورية إلى لبنان، واختار الرئيس السوري في ظرف الصدام مع موسكو واليسار اللبناني خيار المصالحة مع السادات (بعد خصام بدأ مع اتفاقية سيناء في أيلول - سبتمبر 1975) في مؤتمر الرياض السداسي في تشرين الأول (أكتوبر) 1976 الذي قام بتشريع عربي للوجود السوري العسكري في لبنان، ولكن، عندما زار الرئيس المصري القدس في 19 تشرين الثاني 1977 اختارت دمشق التقارب مع موسكو وصولاً إلى معاهدة 1980 السوفياتية - السورية ثم صفقات الأسلحة النوعية السوفياتية في عهد يوري أندروبوف (10 تشرين الثاني 1982- 10 شباط 1984). هنا، يقال في الوسط السياسي السوري أن الرئيس حافظ الأسد زار موسكو عام 1987 أساساً من أجل قراءة ميخائيل غورباتشوف والبيريسترويكا عبر رؤية عيانية، وعندما استخلص أن هناك اتجاهاً سوفياتياً نحو الاستقالة من وضعية الدولة العظمى عند حكّام الكرملين اختار من جديد الانفتاح على واشنطن بدءاً من لبنان 1988 (اتفاق مورفي- الأسد) ثم اتفاق الطائف الذي كان مثلّث الأبعاد: واشنطن - دمشق - الرياض، وصولاً إلى مشاركة دمشق في التحالف الدولي بقيادة واشنطن في حرب خليج 1991، وهو ما نتج منه أيضاً مشاركة سورية في مؤتمر مدريد الذي رعته واشنطن من أجل تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي.

منذ 1991 وتفكّك الاتحاد السوفياتي في أسبوعه الأخير وحتى 4 تشرين الأول 2011، كانت العلاقات مع موسكو ليست أولوية عند دمشق ما دامت روسيا في حال ضعف، وهو ما دفع دمشق إلى إعادة تشكيل مثلث (القاهرة - الرياض - دمشق) الذي أنتج حرب 1973 عبر التقارب من جديد مع قاهرة حسني مبارك في أوائل التسعينات، ومن ثم تقاربت دمشق مع بغداد صدام حسين في أواخر ذلك العقد، إضافة إلى تعزيزها العلاقة مع طهران، ولكن، عندما اختارت موسكو ممارسة الفيتو في شأن الأزمة السورية في مجلس الأمن الدولي في 4 تشرين الأول 2011 كان هذا أول إعلان روسي بأن الكرملين بدأ بالمصارعة لزحزحة وضعية «القطب الواحد للعالم» التي احتلتها واشنطن بعد انتصارها على السوفيات في الحرب الباردة، وهو ما كان معلناً قبل سنتين مع تشكيل «مجموعة دول البريكس» مع الصين والهند والبرازيل (ثم جنوب أفريقيا التي انضمت عام 2010).

اختارت موسكو الباب الدمشقي لهزّ وضعية الأحادية الأميركية للعالم وأجبرت واشنطن على عدم الانفراد بالأزمات العالمية كما جرى في حرب كوسوفو (1999) وغزو العراق (2003) وحتى عندما بدأت واشنطن، بعد شهر عسل أميركي - إيراني في العراق المغزّو والمحتل، في مجابهة طهران إثر استئناف برنامجها في تخصيب اليورانيوم في آب (أغسطس) 2005، فإن موسكو كانت تجاري واشنطن في مجلس الأمن الدولي في قرارات فرض العقوبات على إيران، وهو ما استمر حتى القرار الدولي في نيويورك تجاه ليبيا في آذار (مارس) 2011. عملياً كانت الأزمة السورية ميداناً عند الروس لكسر الأحادية الأميركية، وهو ما ترجم في (بيان جنيف 1- 30 حزيران 2012) ثم في (اتفاق كيري - لافروف، 7 أيار 2013) تجاه الأزمة السورية، ثم تم تكريس الثنائية الأميركية - الروسية، عبر الأزمة السورية التي كثّفت الصراعات والاستقطابات الدولية والإقليمية، في اتفاق الكيماوي السوري في 14 أيلول 2013.

الأرجح أن خطوة فلاديمير بوتين، منذ بدء الضربات الجوية الروسية ضد المعارضة السورية المسلحة في 30 أيلول 2015 في اليوم التالي لاجتماعه مع باراك أوباما في نيويورك، وهو الذي اختار أيضاً مجابهة واشنطن في كييف ما بعد 21 شباط 2014 مع إسقاط الحكم الأوكراني الموالي لموسكو - هي شبيهة بخطوة نيكيتا خروتشوف في خريف 1962 عندما نشر الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا وردّ عليه الرئيس كيندي بحالة الإنذار النووي: قاد هذا إلى حلّ ضمَن بقاء كاسترو وعدم تكرار غزو الأراضي الكوبية مقابل سحب الصواريخ السوفياتية، مع ثمن إضافي بتفكيك قواعد التنصّت الأميركية على السوفيات في شمال شرقي تركيا ووقف تحليق طائرات التجسس الأميركية (t2) فوق الأراضي السوفياتية. على الأرجح أن اغتيال كينيدي في 22 تشرين ثاني 1963 كان له علاقة «ما» بتلك الصفقة الكوبية، وقد عاد خلفه جونسون إلى المجابهة مع موسكو والتقرّب من إسرائيل، منذ زيارة ليفي أشكول واشنطن في شباط 1964 بعد جفاء استمر بين واشنطن وبن غوريون استغرق سبع سنوات بعد حرب 1956، ما دفع موسكو إلى التقارب مع مصر منذ زيارة خروتشوف القاهرة في أيار 1964، ثم وصلت المجابهة الأميركية - السوفياتية ذروتها مع اشتعال الحرب الفيتنامية إثر حادث خليج تونكين في آب 1964.

عند الغرب قناعة بأن «لا حلّ في سورية من دون روسيا». قال هذه العبارة وزير الخارجية البريطانية وليام هيغ في تشرين الثاني 2011 أمام معارضين سوريين التقوه في مقرّ الخارجية البريطانية في لندن وفي مذكرات كيسنجر إقرار بأن الخارجية البريطانية هي المركز الرئيسي للتفكير السياسي للغرب الأميركي - الأوروبي.

* كاتب سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة