وأخيراً، حزمت روسيا أمرها، وقررت التدخل العسكري بصورة مباشرة في سورية إلى جانب نظام الأسد. لقد استغلّ الرئيس الروسي بوتين حالة الضعف والتردد لدى الأميركيين والأوروبيين، فأنزل جيوشه وأقام معسكره على الأرض السورية لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وكما هي دوماً ذريعة التدخل من جانب جميع اللاعبين.
ومع أنه كانت لهذا التدخل السافر مقدماته، كما تشهد الفيتوات الروسية في مجلس الأمن ضد المقترحات لحل الأزمة السورية، فإنه شكل حدثاً غيّر قواعد اللعبة على المسرح السوري والإقليمي. فكيف نقرأ دلالات هذا الحدث وأبعاده ومفاعيله؟ إنه رسالة لكل اللاعبين الآخرين، أكانوا حلفاء وأصدقاء أم خصوماً وأعداء.
هو اولاً رسالة لإيران تقول لها إنها فشلت في مهمتها. فبعد أكثر من اربع سنوات من دعمها نظام الأسد بالسلاح والخبراء والأموال الطائلة، فضلاً عن تسخير «حزب الله» وبقية الميليشيات الشيعية الآتية من كل حدب وصوب، كانت النتيجة وصول النظام الأسدي إلى حافة الانهيار.
لذا أخال بوتين يقول للإيرانيين أنتم لا تنقذون نظام الأسد ولا تمنعون سقوطه كما يدعي ساستكم وجنرالاتكم. انا أقوم بذلك، فقفوا ورائي وادعموني بعد إخفاقكم الذريع في مشروعكم.
وإذا شئنا أن نقرأ الوجه الآخر للمسألة، في ما يتعدى التحالف بين روسيا وإيران، قد يكون للتدخل الروسي مفاعيله الإيجابية، عربياً، على المدى الطويل، بقدر ما يضع حداً للأخطبوط الإيراني برأسه وأذرعه في غير بلد عربي.
ولهذا فإن التدخل الروسي هو، في الوقت نفسه، رسالة للسعودية ولتركيا، في آن، مفادها بأن كلتيهما عجزتا عن مجابهة التوسع الإيراني في سورية والعراق ولبنان. هنا أيضاً أخال بوتين يقول للسعوديين والأتراك لقد اعتمدتم على الأميركيين، ولكن من غير جدوى. الأجدى أن نجلس معاً لكي نتباحث في إيجاد الحلول للأزمات المستعصية (هذا ما حصل فعلاً، إذ قام ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز بزيارة إلى روسيا للتباحث مع الرئيس بوتين في شأن الأزمة السورية).
أنتقل من ذلك الى الوجه الآخر من الرسالة. فهي موجّهة بالدرجة الأولى إلى أميركا وأوروبا، بأن لا حلول في المنطقة من دون روسيا. ولعل ما فعله بوتين في سورية يشبه ما فعل الحوثيون في اليمن. فقد استغل هؤلاء، بالتواطؤ مع الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، الدور المشبوه الذي كان يقوم به مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى اليمن، تحت شعار المباحثات، لكي يخرجوا من صعدة ويستولوا على صنعاء، ثم يتابعون زحفهم نحو عدن.
وكانت النتيجة أن دول الخليج دفعت ثمن ترددها: انخراطها في هذه الحرب الضروس التي تخوضها من اجل ارجاع الأمور إلى نصابها المشروع في اليمن. كذلك الحال بالنسبة إلى الدول الغربية، فإنها سوف تدفع ثمن ترددها الذي جعل بوتين يضرب بعرض الحائط كل ما كانوا يقولونه، في أروقة الأمم المتحدة، لكي يقدم على غزو سورية، فيما هم عاجزون أو غافلون.
ولكن، هل سينجح بوتين في مهمته، أم يغرق في أتون حرب يُعرف متى تبدأ ولا يُعرف كيف تنتهي؟
التجارب المريرة شاهد كبير، فقد غرق أسلاف بوتين السوفيات في متاهات الحرب الأفغانية ووقعوا في أفخاخها لكي يخرجوا مهزومين. وهذا ما تشهد به أيضاً تجربة الأميركيين في أفغانستان وفي العراق. فالحرب على المنظمات الإرهابية قد أفضت بها إلى أن تزداد قوة وانتشاراً، ما يشهد على فشل الإستراتيجية الأميركية وعلى تخبّط أصحابها بين المواقف المتناقضة.
من هنا فإن مغامرة الرئيس الروسي هي مثار التساؤلات والمناقشات من جانب أكثر الذين يتناولونها بالقراءة والتحليل.
فما الذي يريد بوتين حقاً؟
هل يريد محاربة التنظيمات الإرهابية كما يدعي؟ لكن ذلك لا يتم بالتحالف مع دول وأنظمة وقوى تعد من صنّاع الإرهاب ورعاته؟
هل يريد انقاذ نظام الأسد، بعد كل هذه الأنهار من الدماء التي سالت في سورية والتي يُسأل عنها النظام نفسه؟ هل من داس على كل القيم والشرائع والمواثيق، يمكن أن يساهم في إخراج الشعب السوري من الجحيم الذي زجه فيه؟
هل هو يخوض حرباً مقدسة كما تعلن الكنيسة الأرثوذكسية؟ مثل هذا الإعلان يؤلب ضده العالم الإسلامي بأكثريته السنية، بقدر ما يجعل كل سني يتعامل مع تنظيم «داعش» بوصفه المنقذ.
هل يريد بوتين الثأر من الدول الغربية التي استبعدته من الحل في ليبيا؟ ولكن أين هو الحل؟ إن التدخل هناك أفضى الى ما تشهده ليبيا من الفوضى والعنف والخراب.
هل يريد كسر شوكة أميركا التي دعمت أوكرانيا في سعيها إلى الإنشقاق عن بلده، لفتح عهد جديد تكون فيه روسيا اللاعب الأبرز على الساحة العالمية؟ ولكن، قد ولى الزمن الأحادي التي تسيطر فيه دولة على العالم مهما علا شأنها. من هنا فإن محاولات الهيمنة و «التشبيح» الإستراتيجي، التي تصدر عن هذه الدولة أو تلك، أكانت كبيرة أم صغيرة، مآلها الفشل الذي تشهد عليه علائم التخبط والتورط والتواطؤ التي تسم سياسات اللاعبين على الساحة الدولية، وبالأخص في المنطقة العربية.
نحن إزاء مطالب مستحيلة، وإذاً مدمرة، سواء ما اختصّ منها ببقاء النظام أم بالحرب المقدسة أم بالتحالف الرباعي الجديد مع ايران وأتباعها من العرب؟
هل الحل إذاً هو ما تقترحه الدول الغربية؟ لا شك في أن ما قاله أوباما، في شأن مرحلة الانتقال التي تحتاج برأيه إلى «قيادة جديدة» في سورية، هو حل له معقوليته، وإن كان الشك يظل قائماً في صدقية ما تقول اميركا أو تعلنه.
وهذا ما يصدق في شكل خاص على الإستراتيجية الروسية. والدليل أن بوتين أكد أثناء وجوده في الأمم المتحدة، بأن مصير الأسد لا يقرره الرئيس الأميركي ولا الرئيس الفرنسي، بل الشعب السوري. لكنه سرعان ما نقض قوله ومسح كلامه، بعد عودته من نيويورك الى بلده، إذ أجاز لنفسه ما رفضه لغيره: التدخل في سورية لإنقاذ نظام أباد مئات الألوف من الشعب السوري عبر استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، كل ذلك تم تحت نظر الرئيس الروسي وبدعم منه. ويالها من مفارقة فاضحة أن يتكلم بوتين على «الشعب السوري»، فيما هو يدافع عن رئيس فتك بشعبه قتلاً وتعذيباً أو تشريداً وتهجيراً. فأين هو الشعب السوري الذي يطالبه بوتين بتقرير مصيره!
الأجدى أن لا يندفع بوتين في مغامرته العسكرية التي لا أفق لها، والتي سوف تزيد الأمور تعقيداً وتأزماً. الأجدى ان يعود الى صوابه، فيتعقل ويقرر وقف الأعمال الحربية، في الأجواء السورية. عندئذ يكون تدخله بمثابة فرصة تفتح الإمكان أمام جميع اللاعبين والمعنيين، لكي يجلسوا على الطاولة، لا للبحث عن أدوار وحصص، أو لوضع صيغة جديدة لقواعد اللعب والاشتباك، بل لإيجاد حل لمأساة الشعب السوري أساسه مجابهة العدوين المتواطئين على خراب سورية، كما يعرف الجميع ذلك ويتجاهلونه: النظام الديكتاتوري والإرهاب الأصولي.
ولا ينخدعنّ بوتين بالألقاب الإمبريالية والفاشية التي يحاول تلبسها، كلقب «القيصر» الذي يطلقه عليه أنصاره في روسيا، أو لقب «أبو علي» الذي يخلعه عليه بعض العرب الذين رحبوا بغزوه لسورية، وكان العرب من قبل قد خلعوا هذا اللقب على النازي أدولف هتلر.
فليتعظ بوتين، لا شيء يعود الى الوراء كما كان عليه، إلا إرهاباً وخراباً. لقد ولى زمن البطولات التي دفع ثمنها العرب وســائر البشر أثماناً باهظة، في غير حرب أو مغامرة، كانت خلاصتها أن نصنع بطلاً لندمر بلداً، أو نعبد قائداً لنبيد شعباً، أو نقدس شعاراً لنشبع فقراً، أو نؤله حاكماً لكي نحصد توحشاً وبربرية.
أياً يكن، من غير الممكن معالجة المشكلات بالعقليات والأفكار التي ساهمت في إنتاجها. لذا لا حل ما دام الجميع يتعاملون مع سورية، وسواها من البلدان العربية، بوصفها غنيمة، أو ساحة للعب، أو موقعاً استراتيجياً لممارسة الهيمنة وبسط النفوذ.
لا حل ما دام كل لاعب أو فاعل، من الكبار والصغار، يفكر بمصالحه أو تحركه هواجسه، سواء اختصّ الأمر بأميركا وروسيا أو بإيران وتركيا وأوروبا. ولا أنسى الصين التي دخلت مؤخراً على مسرح الصدام و الاشتباك، لتحصل على قسم من الكعكة.
لا شك في أن العالم قد تغير وتغيرت معه مفاهيم الحقوق والعلاقات بين الدول. ففي عصر تتشابك فيه المصالح والمصائر على الساحة العالمية، بات من الجائز للواحد أن يتدخل في ما يحدث من أزمات وانفجارات خارج بلده، لكي يساهم في تركيب الحلول أو صوغ التسويات.
لكن التدخّل الفعال والبناء لا يتم بعقلية الانفراد أو الصدام أو الانتقام، ولا بمنطق ازدواج المعايير أو انتهاك القيم. فذلك لن يساهم إلا في انتاج ما ندعي محاربته من إرهاب أو استبداد أو فساد.
وما نحن فيه من بربرية يشهد علينا، بأن الأصل في ما نفكر فيه ونقوم به هو الخداع والتلاعب أو الطمــع والإقــصاء أوالقوة والغلبة...؟
أما من أمل بابتكار قواعد جديدة لتدبير الشؤون وتسيير الأمور في هذا السيرك البشري؟
أما من سبيل لفك منطق الصدام وقواعد الاشتباك، للعمل على خلق الإمكان للاعتراف والتعايش أو للتداول والتبادل، سواء على مستوى وطن أو على مستوى العالم؟ وإلا بماذا نتميّز عن الحيوان، هل باستخدام طاقتنا الفكرية لقتل بعضنا بعضاً، بالدبابات والطائرات والصواريخ العابرة، فضلاً عن الغازات السامة والمفاعلات النووية وسواها من اسلحة الدمار الشامل؟ هل أقول «سيرك بشري»، مع فارق أن هذا السيرك أكثر وحشية من السيرك الحيواني؟
* مفكر لبناني. |