على أكثر من وجه، يمكن قراءة التحرش الروسي بالجار التركي لسورية. من بين هذه الأوجه ذاك الذي تريد موسكو إبرازه، وهو تمسكها التام بتعريفها سيادة النظام على الأراضي السورية كافة، لذا لم تكن مصادفة استهلال عمليات الطيران بقصف مواقع للمعارضة لا تبعد أكثر من 500 متر من الحدود التركية. الرسالة الروسية واضحة، مفادها أن التدخل لا يهدف إلى بلورة «دويلة علوية»، ولا إلى الدفاع عما تداوله بعض المحلّلين باسم «سورية المفيدة» إيرانياً، وبالتأكيد الحملة برمتها تتجاوز إقامة بقعة نفوذ روسية صغيرة على مياه المتوسط.
الاحتلال الروسي يأتي على الضد من فرضيات تقسيم البلد، أو انقسامه تلقائياً إلى مناطق سيطرة مستدامة، ومتحاربة من دون أفق قريب لانتصار إحداها. الأشهر القليلة التي وضعتها موسكو لحملتها، وبموجب القصف المكثف الذي استهلته، يُفترض بهما إلحاق قدر من الدمار يجعل العيش في المناطق المستهدفة مستحيلاً، فضلاً عن إلحاق أذى غير قابل للتعويض في البنية العسكرية للفصائل المعارضة. هذا الطموح يتغذى من عدم وجود أدنى مؤشر الى استراتيجية غربية مضادة، ومن عجز القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة عن فتح خطوط إمداد بلا تغطية أميركية، ويتغذى أيضاً من تقبّل المجتمع الدولي أزمة اللاجئين كقضية إنسانية مجردة.
التصور الروسي/ الأسدي لسورية المقبلة قد لا يبدو واقعياً أو قابلاً للتصديق، وهي ثغرة إضافية في فهم أولئك الذين ينتظرون الأيام المقبلة للحكم عليه، لكنه مهما بدا غير واقعي فلن يضيف جديداً، إذ لا أحد قبل أربع سنوات كان يملك شجاعة تخيل ما حدث خلالها في سورية. موسكو والأسد يدركان عدم وجود أفق مستدام للدويلة المزعومة، أو على الأقل لا تقتصر أطماعهما عليها، فسورية «المفيدة» وفق ذلك الترسيم هي بالأحرى المفيدة إيرانياً، لا تلك التي تملك مقومات ذاتية للبقاء. لننسَ تلك المبالغات عن احتياطيات النفط والغاز في المتوسط، فلو كانت مغرية حقاً لسبقت إسرائيل الجميع وأصبحت دولة نفطية. سورية ذات الثقل الراسخ المفيد هي في الأصل خارج «دويلة الساحل» المزعومة، المشكلة فيها أن غالبية سكانها لا يريدون بقاء النظام.
إذاً، موسكو لا تخفي تفضيلها بقاء الأسد بعد المرحلة الانتقالية، ولا تخفي نيّتها مساعدته على استعادة الأراضي الخارجة عن سيطرته كافة تحت زعم شرعيته وإرهاب من يحاربه. وفق المعطيات الحالية، لا يُستبعد أن يحقق الروس انتصارات ميدانية مدعومين بقوات برية إيرانية وشيعية مع قوات النظام، وأن يبدأ مشروع قضم «المناطق المحررة» من دون تصدٍّ دولي له. المناطق المستهدفة ستكون كل تلك الخارجة عن السيطرة، باستثناء مناطق سيطرة الميليشيات الكردية، لأن للأخيرة وظيفة تؤديها الآن كحاجز أمام قوات المعارضة، وليس أمام «داعش» فقط كما يُروّج، وأيضاً كتهديد للجار التركي الذي لم يتخلّص من حساسيته إزاء الملف الكردي في الجوار. الوظيفة الأخيرة ستنقلب في ما بعد على الميليشيات نفسها، إذ توضع بين خيارين: التهديد التركي أو التسليم التام للنظام.
نجاح المخطط الروسي/ الأسدي لا يتوخى في المدى المنظور إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة، فهذا هدف مستحيل أصلاً. علاوة على ذلك، لا النظام يريده ولا موسكو. سورية التي يريدها الطرفان مبدئياً هي المبنيّة على الوقائع التي فرضتها السنوات الأخيرة، مع الإقرار بفوز النظام وحلفائه بالمعركة، وتالياً الإقرار بخسارة المعارضة وحلفائها. هي سوريتان، سورية التي لم تتأذَّ بالحرب أو الانتقام، وسورية «المعارضة» التي خسرت الحرب، وخرجت مدمرة تماماً، والتي ستلاحقها نقمة المنتصر. للتذكير، عانت مدينة حلب من انتقام الأسد الأب ما يزيد عن عقد من الزمن نتيجة ما عُدّ تمرداً من جانبها ودعماً للإخوان المسلمين، أما مدينة حماة فسبق بها النظام نموذج غروزني، وجهد بعد انتصاره لإعادة هندستها معمارياً وسكانياً بما يضمن سيطرته.
سورية «المزعجة» ستكون بعدد أقل من السكان، لأن أزمة اللاجئين لن تجد طريقها إلى الحل سريعاً، وليس مستغرباً إطلاقاً التعامل معها كما تعاملت إسرائيل مع أزمة اللاجئين الفلسطينيين. مع التنويه بأن نجاح موسكو النظام سيفاقم أعداد النازحين، قد تُستخدم قضيّتهم لابتزاز دول الجوار سياسياً، أو حتى لابتزاز دعم دولي أو إقليمي تحت ستار إعادة الإعمار، لكن المافيا البوتينية أو الأسدية ليست من النوع الذي يتوانى عن السطو على الدعم والتنصّل من الوعود. باختصار، المستهدف هو ثروات سورية «المزعجة» الطبيعية فحسب، مع أقل ما يمكن من السكان الذين هم أصلاً إما في موقع الموالاة أو الحياد. هذا وحده ما يكفل التنصّل من التبعات الضخمة لإعادة الإعمار، وأيضاً يكفل الموارد لتسديد الديون الإيرانية والروسية.
بهذا المعنى، سيبني التدخل الروسي على مخطط التدمير والتغيير الديموغرافي الذي بدأه النظام وإيران، ولن تكون استعادة السيطرة إلا بمثابة احتلال شبه معلن، ووفق أسوأ مخيال عن قوى الاحتلال. ومهما قيل عن التزام موسكو بمعايير المؤسسات، إلا أن سلوك المافيا الحاكمة في داخل روسيا نفسها لا يشجّع على حسن الظن، بل إن سلوكها في مناطق السيطرة والنفوذ بدءاً من الشيشان وصولاً إلى شرق أوكرانيا والقرم، يعزز فرضية تبنيها سياسة التدمير والتهجير في سورية أيضاً. السيناريو السوري، إذا كُتب له النجاح، سيمزج بين نهج أسوأ القوى الاستعمارية ومرحلة العبودية، إذ ستكون الفرصة سانحة ليعتقد النظام أنه تجاوز مرحلة «الأبد» إلى ما بعده.
التقسيم، إذا حصل وفق ما تريده موسكو، سيكون بين سورية حاكمة واحتكارية للثروات، وإلى جوارها سكان يخضعون للسيطرة المطلقة تحت زعم مشاركتهم في السيرك الوطني الجديد. قبل سنوات، قدمت هوليوود تصوراً مشابهاً، في سلسلة حظيت بالرواج تحت اسم The hunger games، حيث تدور القصة في بلد شهد ثورة فاشلة، وعوقبت المقاطعات الثائرة بانتقام وصل حدّ التجويع، بينما كان أبناؤها يُساقون للفرجة عليهم في مواسم وطنية يتمتع بها سكان المقاطعات الحاكمة. بالطبع، تصعب مقارنة الحلول الهوليوودية بفظاظة الجيش الروسي، مثلما يصعب الجزم بنجاح موسكو في ما تريد فرضه كوضع دائم، وإن كانت فرص نجاحه موقتاً غير معدومة. |