ليس القلق والتعبير الدائم عنه، لا بل المفرط أحياناً، حدثاً استثنائياً في خطاب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. فذلك دأبه في التعامل مع الملفات الشائكة عموماً، وتلك المتعلقة بنزاعات منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، لا سيما مع انطلاق الثورات العربية وتحول بعضها إلى نزاعات مسلحة ودموية، حتى درجت دعابة تقول إن اليوم الذي يمر ولا يعبر فيه بان كي مون عن قلقه يثير القلق فعلاً.
ولعل أكثر لحظات الاستفزاز واليأس والإحباط هي تلك التي تتقاطع مع وقوع حدث جلل في سورية، من قبيل مجزرة أو قصف لأحياء مدنية أو كشف انتهاكات جسيمة في المعتقلات، فيقابل من أعلى هيئة دولية، بتلك الكلمة الباردة، المتنصلة من أي مسؤولية أو دور عام، والتي لا ترقى حتى إلى مستوى التنديد أو الشجب أو الإدانة إن تركنا جانباً الطموح بالتهديد أو التلويح بالتدخل أصلاً.
لكن قلق الأمين العام الأخير يستحق التوقف عنده لأكثر من سبب. فهو وللمرة الأولى منذ تحول الثورة السورية إلى شلال دم مستمر، يعبر عن قلقه من خطورة تورط «حزب الله» وعناصر لبنانيين آخرين في القتال في سورية والعراق واليمن، محذراً بلهجة غير معهودة منه من تفاقم الأخطار على لبنان وتعريضه لمزيد من التهديدات. وإذ تجاهل بان كي مون مخاوف جدية سبق أن عبر عنها أكثر من فريق لبناني وإقليمي من دور الميليشيات الشيعية عموماً، و»حزب الله» خصوصاً، في القتال إلى جانب نظام بشار الأسد، دق أخيراً جرس إنذار حول «انتهاك لبنان لسياسة النأي بالنفس، وإن التورط في سورية يزعزع في شكل جدي أمنه واستقراره». علماً إن «حزب الله» ليس أي طرف مسلح قرر نقل معركته إلى خارج الحدود، وإنما هو شريك أساسي في الحكم والحكومة، وبالتالي فإن قرار الحرب والسلم الذي يحتكره، يمنع تلقائياً بقية السلطات في الدولة اللبنانية من أن يكون لها في المقابل أي صلاحية في القبول أو الرفض.
وتأتي أهمية «القلق الأممي» هذه المرة، من أنها ارتبطت أيضاً بدعوة بان كي مون الصريحة إلى «اتخاذ كل الخطوات الضرورية لمنع «حزب الله» ومجموعات مسلحة أخرى من حيازة السلاح وبناء قدرات شبه عسكرية خارج سلطة الدولة» بما يشي أن ثمة نية دولية بدأت تظهر إلى العلن، للحد من نفوذ الأذرع الإيرانية الممتدة إلى المنطقة كلها، وإعادة موضعتها ضمن حدودها «الوطنية». فقد ترافقت تصريحات بان كي مون الأخيرة حول لبنان، برسالة مباشرة وصريحة هي الأخرى حملها وزير الخـــارجية الإيراني محمد جواد ظريف لحكومة بلاده، بضرورة «تفعيل حل سياسي والضغط على الحليف السوري بغية التوصل إلى حل سلمي للنزاع».
ويمكن تفسير تلك المواقف المتقدمة نسبياً للأمين العام في أكثر من اتجاه. فهي لا شك تندرج ضمن تلبية حاجة البلدان الأوروبية إلى استقرار دول المنطقة بما يتيح الحد من تدفق اللاجئين إلى شواطئها، لكنها أيضاً تصب في كف يد الأخطبوط الإيراني عن الإمساك ببلدان كاملة تمتد من اليمن إلى العراق مروراً بسورية ولبنان، وما يعنيه ذلك من متاعب ومصادر قلق للمنطقة والعالم. فالتفاوض الدولي مع الإيرانيين من الصعوبة بمكان يجعل أي خطوة وإن صغيرة تحتاج جهداً هائلاً لبلوغها، من دون أي ضمانات لتنفيذها أو الاستمرار بها. فحتى الإنجاز النووي، الذي كان يفترض أن يثمر عن بوادر حل ما، لم يبدأ تصريفه في السياسة بعد. يضاف إلى ذلك القلق الفعلي المرتبط بأمن إسرائيل وضبط حدودها الشمالية. فقد بدا واضحاً أخيراً، أن الحليف الأقرب لإسرائيل في هذه المرحلة والضامن الفعلي لمصالحها وهدوئها، هم الروس، وليس الأميركيين في ظلّ ادارة أوباما.
لذا، فإن أحد عناصر تبديد القلق الدولي في المنطقة، هو تقليص دور إيران وحلفائها لا سيما في الشأن السوري، وحصره بمساندة الجيش النظامي على الأرض والمفاوضة على بضع قرى شيعية، مقابل تكريس روسيا مقاتلاً في الجو، ومفاوضاً بديلاً مرناً، على أي طاولة مفاوضات مقبلة.
والحال إن بوتين المستفيد أشد الاستفادة من غياب دور أميركي فعال في سورية وما خلّفه من فراغ يسده هو، لا يتأخر في اقتناص الفرص و»افتعال الأخطاء» التي تصب في مصلحته. هكذا، خرق الأجواء التركية مثيراً الذعر من احتمالات امتداد الحرب إلى بلد عضو في حلف شمال الأطلسي رافعاً سقف التهويل من حوله ليعود ويستثمر في عدم وقوع الأسوء. وسرعان ما ترجم ذلك بتصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يذكر فيه بالمصالح الاقتصادية الكبيرة بين البلدين ومشروع بناء محطة نووية تركية في ولاية مرسين من تنفيذ روسي. وصحيح أن نبرة أردوغان كانت مرتفعة وتلوح بالبحث عن خيارات أخرى، لكنها عملياً ومن غير قصد ربماً تقدم تطمينات إلى أن الخلاف حول سورية يجب ألا يفسد للاقتصاد قضية.
أما «الخطأ المفتعل» الآخر الذي ارتكبه بوتين، والذي يبقي محيطه متيقظاً فهو إطلاق أربعة صواريخ باتجاه إيران، وإصرار الجيش الروسي على نفي ذلك وسقوط كل الصواريخ في الأهداف المحددة لها، مقابل تأكيد إيراني وتحديد دقيق للمواقع... وشبه «استجداء» بضرورة البحث في الحادثة لمنع تكرارها. وسواء كان ذلك فعلاً متعمداً، والمرجح أن يكون، أو فعلاً خطأ في التصويب إلا أنه في كلا الحالتين بلغ رسالة مفادها أن الفضاء السوري بات ملكية حصرية لروسيا، الأجدى بتركيا وإيران الابتعاد عنها.
اللافت إن ذلك كله لم يثر قلق الأمين العام بان كي مون، بل ربما على العكس ساهم في طمأنته والتهدئة من روعه.
* كاتبة وصحافية من أسرة «الحياة». |