لا تخلو متابعة التدخل الروسي المباشر في سورية من استعارة أدوات الحرب الباردة. حلفاء النظام يرون في نهج بوتين استرداداً للكرامة السوفياتية المهدورة، والخصوم ترنو أعينهم إلى رد فعل أميركي، قد يأتي متأخراً، لكن المهم مجيئه ليقلب الطاولة على الروس أسوة بأفغانستان. طرائق تفكير الحرب الباردة هذه تتناسى تشديد إدارة أوباما على انتهائها، والأهم تناسيها عدم سعي الإدارة إلى اكتساب مناطق نفوذ جديدة، ربما باستثناء تلك التي لا تكلف ثمناً. لندعْ جانباً فرضية الإرهاب الإسلامي التي تحكم رؤية الإدارة، ففي أوكرانيا أتى ردها بعقوبات غير رادعة، وعلى المستوى الاقتصادي الذي يبدو بوتين مستعداً للتضحية فيه موقتاً.
من وجهة نظر أخرى، التدخل الروسي تأخر قرابة السنتين، أي منذ اتضح عزم أوباما على الانسحاب من القضية السورية، وقبل ذلك منذ تجاهلت إدارته تماماً انخراط ميليشيات «حزب الله» والحرس الثوري (التي تصنّفها إرهابية) بالحرب على السوريين. الذين انتظروا إنجاز الاتفاق النووي الإيراني ليُتكشف نهجٌ جديد للإدارة، دفعتهم رغباتهم إلى تجاهل وجهة القاطرة الأميركية المنسحبة، ولا يضيف نظراؤهم وقائع ذات صدقية أعلى بالحديث عن صفقة تطلق يد الإيرانيين في سورية. أما الحديث عن انتقائية الحرب على المتطرفين فينبغي أن يلاحظ كونها حرباً اضطرارية أيضاً، بسبب إعدام «داعش» الرهينة الأميركي، فضلاً عن ضعف زخم الحلف ضد «داعش» الذي لا يشي برغبة عارمة في الحرب.
الانسحاب الأميركي من المنطقة ليس بالتأكيد انسحاباً حيادياً تماماً، ومن المحتمل جداً انحيازه ضمن الخيارات المطروحة في «السوق». التدخل الروسي لا يُعدّ الأسوأ من بينها وفق ما تروّجه أوساط الإدارة نفسها. وإذ صارت معروفة مواظبتها على التنصل من مسؤولياتها الحالية، بموجب موقعها في الهرم الدولي، ومسؤولياتها التاريخية كقوة هيمنة سابقة، فالإدارة تلقي لوم حدوث الفراغ الحالي على دول المنطقة، وفي شكل ضمني أو صريح على الثورات العربية التي أحدثت الفراغ المناسب للقوى المتطرفة. ومما لا شك فيه أن واحداً من سوء حظ الثورات العربية مجيئها في هذا التوقيت، وإحداثها فراغاً على الأرض يُضاف إلى الفراغ الذي يحدثه الرحيل الأميركي، ما شجع القوى الأكثر جاهزية على اقتحام الفراغ.
على نحو محايث لانسحاب الإدارة الأميركية، ولسنوات سابقة على «الربيع العربي»، كان يجرى تفكيك مندرجات الحرب الباردة والركائز الإقليمية في المنطقة. في العقد الأخير تراجعت مكانة الكثير من الدول الإقليمية لمصلحة بروز دول كانت تُعدّ قليلة الشأن قبلاً، ولا أدلّ على ذلك من تراجع مكانة إسرائيل، مع أن الدلالة الأبرز هي عودة إيران كشرطي محتمل للمنطقة، في موازاة الطموح التركي الذي كان يملك حظاً أوفر نظرياً. الثلاثي الذي كان منوطاً به تحقيق التوازن والاستقرار، السعودي - المصري - السوري، استغنت الإدارة عنه لمصلحة صفقات تبرمها وقت الحاجة مع هذا الطرف أو ذاك، ويجوز القول أنها أطاحته نهائياً مع تسليم السلطة للمالكي في بغداد. خلاصة ما فعلته الإدارة، تفكيك شبكة «الأمان» التي رافقت انخراطها في شؤون المنطقة، ولا يُستبعد كونها فعلت ذلك للتملص من أية استحقاقات كبرى أو استراتيجية، لا لإشعال الفوضى خلفها.
من المهم أيضاً القول أن الفراغ الذي خلّفه بدء الانسحاب الأميركي، تزامن مع وصول ديكتاتوريات المنطقة إلى أفق مسدود. ولئن كانت الأخيرة تستمد قوتها من السيطرة التامة على مجتمعاتها إلا أن ما افتقدته مع نهاية الحرب الباردة والانسحاب الأميركي هو تلك التغطية الدولية التي تزيدها قوة، وتعلي من شأنها بدمجها في منظومة صراع عالمي. لقد تجرّدت أنظمة الاستبداد لتقتصر على المعنى المبتذل الذي كانت عليه دائماً، وربما يصح القول أنها فقدت البعد الدولي الذي كان يسبغ عليها قليلاً من المعنى، وما حديثها عن «المؤامرة الدولية» لمناسبة الثورات سوى محاولة استعادة ذلك المعنى المفقود. تصاغر الاستبداد الذي رأيناه في السنوات الأخيرة ليس مرده فقط إلى غياب المستبد الكاريزمي، بمقدار ما يمكن رده إلى انعدام دوره خارجياً، الأمر الذي يختزله إلى محاكاة مبتذلة للماضي ومجرد أمير حرب في الداخل.
قبل ثلاث سنوات تماماً، حذّر المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي من صوملة سورية، والمنطقة تالياً، وقوبل تصريحه بالاستهجان: أغلب الظن لأنه لم يبذل الجهد المأمول لتجنب ذلك المصير. لكن قراءة راهنة لتصريح الإبراهيمي ربما تجعل منه أكثر واقعية، فالمسألة الصومالية وقعت ضحية عدم وجود إرادة دولية حازمة على رغم بعض التدخلات المباشرة العارضة، وأيضاً في غياب أية قوة محلية أو إقليمية قادرة على السيطرة. وحيثما كان هناك فراغ ناجم عن الغياب الدولي، كانت الصراعات المحلية تأخذ أشكالاً أقل «انضباطاً»، وأكثر استدامة. مع هذا، يبقى تصريح الإبراهيمي رهناً بتوقيت لم تكن فيه موسكو متحفزة لملء الفراغ الذي خلفته أميركا والغرب عموماً.
لعل أهم حجة لبوتين في مواجهة إدارة أوباما هي أنه تدخل بعد طول انتظار، لم تفعل خلاله شيئاً، تدخل ليملأ فراغاً تقول الإدارة نفسها أن القوى المتطرفة تسيطر عليه. إجرائياً، يدرك بوتين أن الإدارة لن تكرر تجربة أفغانستان، واقتسامها الأجواء السورية معه أسهل عليها من مغامرة السماح بتزويد الفصائل المعارضة مضادات الطيران، مع عدم ثقتها بألا يرتد جزء من الصواريخ على طائرات التحالف. احتمال المواجهة بين الطرفين غير موجود، حتى إذا حادت موسكو عن تفاهماتها مع واشنطن، طالما أنها ستكون بمنزلة من عصى «الأوامر» لكنه لم يعترض على «المشيئة».
لقد شهدت المنطقة عبر الزمن الكثير من الهزات الجيوسياسية، القاسم المشترك لأغلب مراحل التاريخ أنها قلّما عاشت في الفراغ بسبب وقوعها على خط قوى إقليمية ودولية يندر تراجعها معاً. المشكلة العميقة مع التدخل الروسي مجيئه من ماضٍ ينقرض، وأنه يحاول ملء الفراغ بالقوة العارية ليس إلا. الحامل الأيديولوجي الوحيد أتى من وصف الكنيسة الأرثوذكسية حربه بالمقدسة، وهو وصف لا يعلو به مرتبةً عن الشعار الإيراني «لبيك يا زينب»، والطرفان يمنحان «داعش» مشروعية ملء الفراغ على قدم المساواة معهما، كأن الكارثة لن تتوقف ما لم تجرب جميع قوى الماضي حظها على أنقاض المثال الغربي الآفل. |