«صورة صورة صورة... كلنا كده عايزين صورة... صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة». كانت هذه كلمات في أغنية حماسية رددها ملايين مع عبد الحليم حافظ في مطلع الستينات.
عبّرت تلك الكلمات في حينه عن اتجاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي تحل غداً ذكرى رحيله الخامسة والأربعون، إلى حشد الشعب وراءه. واستُخدم وقتها مفهوم «وحدة الصف» للدلالة على طابع هذا الحشد، وشعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لتأكيد أنه يعبر عن صوت واحد ويعتمد على التصفيق والهتاف.
وكان ذلك الاتجاه امتداداً للشعار «التأسيسي» في ثورة 1952 «الاتحاد والنظام والعمل»، الذي استُخدم في الحملة الأولى ضد تعدد الأحزاب والتنافس الحر وتداول السلطة.
وعلــــى رغم انكشاف مثالب ذلك الاتجاه منذ نحو خمسة عقــود، تجري الآن محاولة إعادة إنتاجه في شكل جديد تحت شعار «الاصطفاف الوطني» وراء الرئيس عبد الفتاح السيسي. وينطوي تعبير «الاصطفاف» هنا، بغض النظر عن دقته لُغوياً، على دلالة تعبوية أقوى من «وحدة الصف». فـ «الاصطفاف»، كما يقصده دعاته الآن، يمثل أعلى مستويات التعبئة السياسية التي تشمل مستويين أدنى منه، وهما الالتزام بالصف، والانتظام فيه وقت الضرورة حين يواجه المجتمع تحدياً خطيراً أو تهديداً كبيراً.
وتوجد هذه الضرورة في مصر الآن بالفعل. غير أن تجربة «وحدة الصف» في المرحلة الناصرية، والعواقب الوخيمة التي ترتبت عليها، تفرض استيعاب دروسها بعد عقود طويلة حافلة بتجارب مُلهمة في عالم تغير أكثر من مرة خلالها. وقد شمل هذا التغير أدوات قديمة لم يعد ممكناً استعادتها في العصر الراهن. فعلى سبيل المثال أتاحت «المرجعية الاشتراكية» التي كانت منتشرة في العالم قبل عقود لصانعي تجربة «وحدة الصف» أدوات مثل الحزب أو التنظيم الواحد الجامع المانع، وهو ما تصعب إعادة إنتاجه الآن. ولذلك تتسم المحاولة الراهنة لبناء «اصطفاف وطني» بعشوائية تظهر مثلاً في دعوات إلى توحيد الأحزاب أو إقامة «جبهة وطنية».
وفي غياب أي محتوى لمثل هذه الدعوات، وفي أجواء تعج بحديث المؤامرة، يبدو كما لو أن ذروة الوطنية هي أن يكون الوطن علبة مُغلقة يُحشر فيها الجميع، مثلما كانت الحال في ما أُطلق عليه «تحالف قوى الشعب العامل» عام 1962.
فكان هذا التحالف (بين العمال والفلاحين والموظفين والجنود والرأسمالية الوطنية) وهمياً لا يعرف «المتحالفون» فيه شيئاً عنه، ولا يرون له وظيفة إلا حشرهم معاً في علبة «يصطفون» فيها، بل لم يعرفوا بعضهم بعضاً أصلاً في أجواء فرضت عليهم جميعاً أن يتحدثوا بصوت واحد وليس بأصواتهم المتعددة. وقد عبّر الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم عن تلك الحالة ساخراً في إحدى قصائده التي غناها الشيخ إمام: «يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش... تعارف يخلّي التحالف يعيش».
ومن أهم دروس تلك التجربة التي ينبغي استلهامها اليوم أن هناك فرقاً كبيراً بين صورة «اصطفاف» مصنوعة تُضعف القدرة على مواجهة الأخطار، وعملية سياسية تحقق معنى «الاصطفاف» في الواقع عبر مشاركة فعلية من جانب مكونات المجتمع المتعددة والمختلفة.
وعندما نستخلص بعض دروس تاريخنا، لا بد أن تلفت انتباهنا المسافة الشاسعة بين معنى «وحدة الصف» في كل من مصر وإسرائيل خلال السنوات السابقة على حرب 1967. ففي الوقت الذي كان نظام عبد الناصر يريد صورة «اصطفاف» يصنعها إعلام أحادي وصوت واحد وتعبر عنها أغانٍ وأناشيد حماسية، كان الإسرائيليون يبنون جبهة وطنية ديموقراطية جمعت أحزاباً وقوى متعددة ومختلفة من أقصى اليمين إلى اليسار في إطار ديموقراطي، وقادت إلى تشكيل حكومة «وحدة وطنية» عشية تلك الحرب.
وهكذا صنع كل من نظام عبد الناصر، والنظام الإسرائيلي (الذي لم يُنسب أبداً إلى شخص)، نوعين مختلفين تماماً من «الاصطفاف الوطني». وشهدت الساعات الأولى من صباح 5 حزيران (يونيو) 1967 تجسيد الفرق المهول بينهما في الواقع.
وتفيد تلك التجربة، وتجارب مهمة أخرى يفيض بها تاريخ العالم منذ أوائل القرن الماضي، بأن نجاح أي «اصطفاف وطني» في مواجهة تهديد خطير يواجه المجتمع في لحظة معينة يتطلب توافر ثلاثة شروط رئيسة.
أولها أن يرتبط بتوافق وطني Consensus على منهجية «الاصطفاف» المرغوب لتحقيق هدف محدد بدقة، وأن يكون هذا التوافق عبر حوار موضوعي جاد. فيكون «الاصطفاف» في هذه الحال ديموقراطياً، وليس بديلاً من الديموقراطية. ويصبح تعبيراً عن توافق مكونات المجتمع، وليس الغاءً ضمنياً أو فعلياً لهذه المكونات.
والشرط الثاني أن يقوم «الاصطفاف الوطني» على احترام التعدّد والتنوع، وليس على محاصرتهما، وأن يقترن بفتح المجال العام وليس غلقه أو تضييقه. فقوّة مثل هذا «الاصطفاف» هي في تنوعه وتعبيره عن حركة المجتمع وتفاعلاته الحرة.
وثمة شرط ثالث هو أن يحدث «الاصطفاف الوطني» في إطار قواعد النظام الديموقراطي التي تفرض أن يكون أي تعديل في النظام القانوني مثلاً أو غيره لمواجهة الخطر أو التهديد متفقاً عليه، وموقوتاً بإنجاز هذه المواجهة التي تفرض اللجوء إليه. وهذا ما يضمن تفعيل دور المجتمع ومكوناته المتعددة، وليس تغييبه أو تقييد حركته أو إسكات الأصوات المتنوعة فيه.
وفي غياب هذه الشروط، يبدو «الاصطفاف» هدفاً في حد ذاته، وليس سبيلاً إلى مواجهة التحدي أو الخطر الذي يجعله ضرورة وطنية في لحظة معينة ومحددة. ويصير «الاصطفاف» في هذه الحال مؤدياً إلى حشد المجتمع من أعلى بلا وعي أو مشاركة. ولا يساعد هذا النوع من «الاصطفاف» في مواجهة أي تهديد، بل قد يؤدي إلى ازدياد الخطر بمقدار ما يُضعف قدرة المجتمع على المشاركة الفاعلة في خوض هذه المواجهة.
وهذا بعض ما يصح استيعابه من تجارب كثيرة في العالم كانت إحداها في مصر التي يصعب أن تواجه خطر إرهاب أسود يهددها الآن عبر إعادة إنتاج «تجربة الستينات» التي ثبت إخفاقها، وانتهى زمنها. |