في غمرة انشغالنا بالوقائع اللبنانية، وقّعت أطراف النزاع في سوريا اتفاق هدنة في منطقتي الزبداني في ريف دمشق، والفوعة وكفريا في ريف إدلب.
الاتفاق ينطوي على خطوة غير مسبوقة في الحروب الأهلية التي شهدتها المنطقة. إنها "تبادل السكان"، خروج المدنيين من بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين في ريف إدلب في مقابل خروج المدنيين والمقاتلين في مدينة الزبداني السنّية في ريف دمشق. وأن يجري ذلك باتفاق وقعته أطراف النزاع، فهنا السابقة.
طرفا الاتفاق هما جبهة "النصرة" و"حزب الله"، أي أنهما ممثلا عملية التبادل ومستثمراها. والحال أن "التبادل السكاني" كوسيلة فرز معلنة بين أطراف النزاع، جديدة على العلوم الانسانية، ذاك أننا هنا حيال نوايا معلنة في إقامة أحزمة سكن طائفي تتولى مهمة تحصين خرائط جديدة.
"سايكس بيكو" مثلاً، وهو الاتفاق الذي قسّم المنطقة إلى دول وحدود وجماعات، لم يتضمّن تبادلاً سكانياً. سقطت الحدود على الجماعات في أمكنة إقاماتها. بعض الجماعات قاوم ولم يقبل، لكنه لم يفعل ذلك احتجاجاً على نقله من أرضه، فهذا فعل لم يقع أصلاً، انما احتجّ على ضمه إلى دولة لا يرغب فيها. دير الزور السورية لم تستسغ ربطها بدمشق، ورغبت بأن تكون جزءاً من العراق، وطرابلس اللبنانية قاومت انضمامها إلى لبنان الكبير، وكانت ترغب في أن تكون سوريا.
تجربة أخرى جرى فيها تغيير سكاني، لكنه لم يكن "تبادلياً"، هي نكبة الـ48. حيث أقدمت إسرائيل على "ترانسفير"، أي على ترحيل السكان الفلسطينيين، وتوطين يهود مكانهم. وبهذا المعنى ليس ما أقدمت عليه إسرائيل في حينه "تبادلاً سكانياً"، لكنها اليوم تسعى إلى ذلك عبر رغبتها في مبادلة مواطنيها العرب بمستوطنين في الضفة وفي محيط القدس، وربما شكلت المبادلة في سورية تجربة يمكن لنتانياهو أن يعتبرها سابقة يُبنى عليها.
الحروب الأهلية في لبنان والعراق وأفغانستان واليمن، شهدت اقتلاع سكان من قراهم ومدنهم، لكن ذلك جرى وفق منطق النصر والهزيمة. المنتصر لم يعلن أن وظيفة حربه ونصره تغيير ديموغرافي، ولم يتقاضَ المهزوم تعويضاً عن هزيمته. المهزوم كان ضحية، وهذا مثل أفقاً لعدالة قد تأتي ذات يوم.
وفي يوغسلافيا السابقة جرت عمليات اقتلاع منهجي للسكان البوشناق والألبان، أقدم عليها القوميون الصرب، ومرة أخرى لم يجرِ ذلك في سياق تبادل للسكان، انما في سياق نصر لقوي جائر هو سلوبودان ميلوسوفتش، تمت محاسبته لاحقاً، وانتحر في سجنه.
المخيف في "التبادل السكاني" الذي من المفترض أن تشهده سوريا أن أطرافه أقدمت عليه ببرودة، مستبقة النصر والهزيمة. وهي ستباشره في سياق تجربة لا تقيم وزناً للخبرات الاجتماعية التي شكلتها إقامة الشيعة في إدلب والسنة في الزبداني.
الشيعي الإدلبي هو شيعي انتقل للعيش في منطقة أخرى في سياق مبادلة لا في سياق حرب وظلامة. أهل الزبداني أيضاً ستكون هذه حالهم.
السكان كائنات طائفية، لا كائنات اجتماعية وتاريخية. هذا ما تعتقده القوى التي وقعت اتفاق التبادل السكاني. الشيعي سيبقى شيعياً خارج الفوعة، لكنه سيكف عن كونه إدلبياً، والسنّي سيستمر سنياً حتى لو كان خارج الزبداني.
هذا هو المضمون الفعلي للاتفاق. هذا هو "حزب الله"، وهذه هي "جبهة النصرة". |