مفارقة الانتخابات المحلية في المغرب أن الحائز صدارتها يتراجع بعد تشكيل مجالس البلديات، فيما «العدالة والتنمية» الذي احتل الصدارة في نظام الجهات تقلص نفوذه على غير المتوقع، في الاستئثار برئاسياتها التي تماثل شبه حكومات محلية بصلاحيات تنفيذية.
لكن احتدام الصراع ترك بصماته على مناطق ظل سياسية، أكبر من نفوذ التدبير المحلي. وإذا كان من مفاجأة قلبت طاولة المعادلات التي كانت أقرب إلى الاستقرار بين الغالبية والمعارضة، فهي أن حزب الاستقلال، وهو ليس بالمعارض وقد لوح بإمكان الانتقال إلى موقع جديد، في صفوف المعارضة الراديكالية لحكومة رئيس الوزراء عبدالاله بن كيران، ولا هو في وارد المشاركة العملية. فقد اخترع السياسيون المغاربة فكرة «المساندة النقدية» للتخلص من أعباء مواقف جد ملزمة في التموقع «مع أو ضد» على طول الخط.
لا جديد في الاكتشاف. ذلك أن «العدالة والتنمية» نفسه لم يشارك في الطبعة الأولى لما يعرف بـ «حكومة التناوب» التي كان يقودها الزعيم الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي، واحتفظ إزاءها بموقف إيجابي. قبل الانعطاف بمائة وثمانين درجة إلى المعارضة. وحين بدأ نفوذ «الاتحاد الاشتراكي» يتقلص، دعا بعض قيادييه إلى التزام صيغة «المساندة النقدية» لحكومة رئيس الوزراء التكنوقراطي إدريس جطو. لكن حزب الاستقلال قطع صلاته وحكومة عبدالاله بن كيران ليخوض مواجهة مفتوحة ضد إسلامييها. ثم انعطف في «الوقت الضائع» في اتجاه مساندتها مع الإبقاء على جانب من التحفظ.
لا يتوقف الأمر عند تداعيات انتخابات البلديات والجهات التي أحدثت ارتجاجاً كبيراً في المشهد الحزبي. ليس أبعده أن تجمع الأحرار الذي خلف الاستقلال على مقاعد الحكومة بعد استقالة وزرائه، أضحى وضعه اليوم موضع تساؤل نتيجة إبرامه تحالفات مع بعض أحزاب المعارضة، بخاصة «الأصالة والمعاصرة» الغريم اللدود لحزب رئيس الحكومة. ولكنه يزيد على ذلك، من خلال تعرض كل من الغالبية والمعارضة إلى هزات عنيفة.
سواء رغب «الاستقلال» في استعادة مكانته داخل السلطة التنفيذية، عبر إزالة تجمع الأحرار، أو حاول الأخير إرضاء شركائه في الائتلاف الحكومي، فإن «العدالة والتنمية» كان الرابح رقم واحد. إن حدث تصدع في المعارضة تكون ثماره لفائدته. وإن وقع ما يماثله داخل سقف الائتلاف الحكومي، يكون تخلص من وجع الرأس. والأهم أن هذه التطورات تأتي في الربع الأخير من الولاية الحالية.
بمعنى آخر، فإن المكاسب التي حققها الحزب الإسلامي تقود إلى أن يخوض تشريعيات العام القادم، أكثر تأهيلاً وثقة في إمكان حفظ موقعه في الصدارة، كون انتخابات المحليات تعكس مدى التصاق وقرب النخب الحزبية إلى الواقع. بل إنه يراهن على إضافة مكاسب أكبر، طالما أن سياسة التدرج التي يسلكها، على غرار تجربة «العدالة والتنمية» في تركيا تميل لفائدة ترسيخ حضوره.
أزمة المعارضة التي خلفتها الانتخابات المحلية، أبانت عن حقيقة جديدة، لا تساير التوقعات التي كانت تستند إلى أن أحزاب الحكومة تتأثر بالتصويت العقابي. وشكل تراجع المعارضة التي اتخذت من مواجهة الحزب الإسلامي برنامجاً سياسياً ظاهرة لافتة. إلى درجة أن طلب التقرب إلى حزب عبدالاله بن كيران صار قضية محورية. وسواء أكان الاستقلال اختار التلويح بهذا التحول لإغاظة شركائه في المعارضة أو توجيه رسائل، لا يعرف إن كانت وجيهة أو خاطئة. فإن طلب ود الحزب الحاكم لم يعد أمراً خافياً.
كان «الاتحاد الاشتراكي» في فترة انتقاله إلى الواجهة الحكومية يردد أنه سيظل في الحكومة لمرحلة لا تقل عن أربعة عقود قضاها في المعارضة من قبل، ثم جاء زمن تراجع فيه حتى في حظوظ معارضته. من يدري فالكفة السياسية لم تعد تخضع لقوانين أرجحية المعارضة، مقابل تراجع الحكومة. وتلك ظاهرة مغربية بامتياز. |