يعيش «حزب الشعب الديموقراطي السوري» أزمةً داخلية هي الأخطر في تاريخه، بشقّي هذا التاريخ. قديمه حين كان يُعرف باسم «الحزب الشيوعي – المكتب السياسي»، بدءاً من 1972 حين قاد رياض الترك، يسانده أعضاء من المكتب السياسي، انشقاقاً عن «الحزب الشيوعي السوري» بزعامة خالد بكداش، أو حديثه الذي بدأ منذ تبني الاسم الحالي للحزب في مؤتمره السادس عام 2005.
والحال أنّ ما تداولته وسائل الإعلام من تصريحات بعض كوادر الحزب، إضافة إلى مضمون ما تسرّب إلى العلن من «رسائل داخلية» ورسائل مضادّة تراشقها الرفاق خلال الأشهر الماضية، يكشف حقيقة ما يجري داخل صفوفه. فالمسألة ليست مجرّد خلافات في الرأي أو في بعض المواقف والسياسات، من النوع الذي قد يقبل التسوية أو الحلول الوسط، بقدر ما هي حالة «انشقاق» تهدّد وحدة الحزب، إن لم تكن قد وقعت بالفعل. خصوصاً بعد إعلان أعضاء في هيئاته القيادية يساندهم عدد من كوادر الحزب، ينتمون إلى منظماته في الداخل والمهجر، عن تشكيل «قيادة موقتة» تتولى مهمة «تناول شؤون الحزب وعلاقاته الداخلية والخارجية، والتحضير لمؤتمره العام استناداً إلى النظام الداخلي». وقد شرعوا بإصدار الرسائل والبيانات الحزبية بصفتهم هذه، متوجهين بها إلى «الرفاق» وكذلك إلى الرأي العام، مؤكّدين فيها سقوط شرعية القيادة الحالية «الرسمية»، التي يعدّ الأمين الأول الأسبق للحزب، وعضو لجنته المركزية الحالية، رياض الترك أبرز وجوهها، وهو الذي ما انفكّ الحزب مرتبطاً باسمه لعشرات السنين، وحتى اليوم.
تحدثت «القيادة الموقتة» عن «استفحالٍ مرضي للفردية والتحكم وعودة اللغة البكداشية من مقبرتها»، في إشارة إلى هيمنة الترك على قرار اللجنة المركزية، ولغة التخوين التي استخدمتها «قيادة الحزب» ضدهم، إضافة إلى قيامها بفرض «عقوبات» بحقهم. ورأت «قيادة الحزب» في الأصوات المعارضة لها، أنها «تكتل تنظيمي حاول بناءه للتخريب في جسد الحزب بعض الذين انتسبوا إليه في المهجر لغاية ما». وأصدرت سلسلة قرارات بحق الأعضاء الخارجين عليها (من بينهم أعضاء في اللجنة المركزية)، تراوحت بين التنبيه والإنذار والتعليق الموقت للعضوية وإسقاطها. كما اتهمتهم بالتآمر و «التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية». كذلك ألمحت «القيادة» إلى تورّط أطراف من خارج الحزب في ما يجري، بقولها إن هدف «التكتل» كان «وضع تماسك الحزب وخطه السياسي في البازار الذي يجري على قدم وساق مع بعض القوى التي تدعي تمثيلها للثورة».
كان لافتاً سعي كلّ من الفريقين إلى تبرير سلوكه ومواقفه بأنها تستند إلى «النظام الداخلي»، فتبادلا الاتهامات بخرقه وتجاوز الأصول التنظيمية، إضافة إلى تأكيد كل فريق أنّ ما يقوم به نابع من حرصه على الحزب، وللحفاظ على تاريخه النضالي ودوره في ثورة الشعب السوري.
على أنّ ما كشفته حيثيّات «الأزمة» تشي بأنّ من اتُهموا بـ «التمرّد على الحزب وهيئاته القيادية»، وطالتهم «العقوبات» الصادرة عن تلك «الهيئات القيادية»، كانوا الأكثر التزاماً بأحكام «النظام الداخلي» من القيادة التي تزعم حرصها عليه، وتبرر قراراتها به. إذ لجأ «المتمردون» إلى «لجنة التحكيم الوطنية» للاعتراض على قرارات القيادة بحقّهم، وأعلنوا قبولهم المسبق بما تصدره اللجنة من أحكام أياً كان مضمونها، ذلك أنّها صاحبة اختصاص الفصل في المنازعات الحزبية وفقاً للنظام الداخلي.
أصدرت لجنة التحكيم حكمها ببطلان قرارات «القيادة» بحق الأعضاء، نظراً لتجاوز صلاحياتها ولمخالفتها أحكام النظام الداخلي، لا سيما المادة 54 التي حصرت إجراءات التنبيه والإنذار والتعليق الموقت للعضوية وإسقاطها وكذلك قرار حل أي هيئة أو منظمة محلية بلجنة التحكيم الوطنية. في حين ترى «القيادة» أن «معالجة التكتل لا تدخل في اختصاص لجنة التحكيم الوطنية، لأنها بوضعها الحالي غير قادرة على القيام بدورها وغياب الإمكانيات المطلوبة لديها، إضافة إلى ثقل المسؤولية في معالجة أمر كهذا»، فلم تعر قرار لجنة التحكيم اهتماماً، وبلغ الأمر حدّ اتّخاذها إجراءاتٍ بحق «لجنة التحكيم الوطنية» نفسها.
كلّ ذلك برّرته «قيادة الحزب» بإحدى مواد النظام الداخلي، المادة 59، التي تتيح للجنة المركزية اتخاذ إجراءات تنظيمية استثنائية في حالات الطوارئ، في حين رأت «لجنة التحكيم الوطنية» أنّ «اللجنة المركزية تتخذ من تفسيرها الخاطئ للمادة 59 سيفاً مسلطاً على رقاب الرفاق والهيئات»، باعتبار أنّ المادة ذاتها تنصّ على أولوية تطبيق النظام الداخلي بكافة مواده، وأن الاستثناء يكون في بعض المسائل والإجراءات التنظيمية، لا في تجاوز الصلاحيات أو إصدار «عقوبات» بحق الأعضاء.
أيّاً تكن أسباب أزمته الحالية، فإن أثرها السلبي لن يقتصر على حزب الشعب فقط، وإنما سيلقي بظلاله على صورة المعارضة السورية عموماً، وتيارها الديموقراطي العلماني بوجه خاص، نظراً للموقع المهم الذي شغله ويشغله هذا الحزب فيهما، وتاريخه المديد والكفاحيّة العالية لكوادره وتضحياتهم الجسام في مواجهة ديكتاتورية النظام السوري لعقود خلت. وكذلك لموقف الحزب البارز حيال الثورة السورية، في انحيازه الصريح لها منذ انطلاقتها، ومشاركة أعضائه فيها بفعالية على الصُّعد كافّة. وليس بأقلّ أهمية، أنّه الحزب الذي سعى لإنجاز نقلة نوعية كبرى على المستويين الفكري والتنظيمي، ميزته عن سائر أحزاب المعارضة السورية الأخرى، وذلك في مؤتمره الأخير قبل نحو عقد، بخروجه من أسر «الأيديولوجيا» وأشكال «التنظيم الحديدي»، إلى رحاب السياسة ودمقرطة حياته التنظيمية. وإنّ استفحال أزمته الراهنة يحمل دلالة خطيرة على فشل تلك التجربة في تطوير أداء الحزب أو الحفاظ على وحدته وتماسكه.
* كاتب سوري |