استناداً إلى مقولة كان الإمام محمد عبده قد أشار إليها عن «المستبد العادل»، أخذ كل حاكم عربي فرد يتصوّر أن في إمكانه الجمع بين الاستبداد والعدل، ما يجعل منه وحده الأمين على الأمة، والقادر على تحقيق صلاحها... هكذا يقول لنفسه، أو يوسوس له سدنته. وهو قول ربما كان صادقاً شكلياً، إذ ينهض على مقدّمة بسيطة هي أن الحاكم القوي الأمين، القادر على نشر العدل ورعاية المواطنين، والمتحرر من ضغوط الآخرين، أفضل كثيراً من أي نظام ديموقراطي تعدّدي، يقوم على أحزاب متصارعة، وينطوي على جماعات ضغط متحفّزة، أي على فرقاء في الميول الأيديولوجية، والمواقع الاقتصادية، وكذلك في رؤية العالم وكيفية التعاطي مع الآخرين.
هذا الاختلاف يجعل إدارة الشأن العام نتاجاً لعمليات مساومة صعبة وتفاوضاً دائماً وصدامات موقتة تجعل من مهمة اتخاذ القرارات الكبيرة وشقّ التوجهات الجديدة عملية صعبة وبطيئة، وتفرض على القائد حدوداً في الحركة وقيوداً في الزمن لا يستطيع تخطّيها إلا بصعوبة بالغة، ولعلّنا جميعاً نتذكر كيف أوشكت الحكومة الفيديرالية فى الولايات المتحدة أن تسرّح معظم موظفيها، لعجزها عن تدبير مرتباتهم، بفعل تأخر اعتماد الميزانية العامة إثر الخلاف بين الرئيس والكونغرس حول قضية التأمين الصحي للمواطنين!
ولا شك في أن قضية كهذه ليست في خطورة قرار كإعلان الحرب، والتي يكون للوقت فيها أثر حاسم في إدارة الصراع، وكسب المعارك. ومثل ذلك يمكن قوله عن عقد معاهدات للسلام تكون مفيدة، أو بناء تحالفات استراتيجية تكون مؤثرة، أو حتى توقيع صفقات تجارية تكون مربحة، وجميعها يمثل الوقت عنصراً حاسماً في إنجازها، على نحو يجعل المساومات المعقدة بين وجهات النظر المختلفة حولها عبئاً ثقيلاً عليها، قد يؤدي إلى إفشالها أو تقليل العائد المتوقّع منها.
غير أن الدرس الذي يعلمنا التاريخ إياه، دولاً ومجتمعات وأفراداً، هو أن الاستبداد لا يمكن أن يكون عادلاً أبداً، حتى لو وجد مستبدّ واحد عادل. قد يأتي المستبد العادل فعلاً، ويكون عهده زاخراً بالرخاء حقاً، لكن مجيء مثل هذا الرجل يظلّ صدفة رائعة لا تتكرر كثيراً، ولا يتوجب على مجتمعاتنا انتظارها. أما الاستبداد نفسه فيمثل بنية معقدة، وسياقاً ممتداً، يقود إلى الفساد والترهّل والضعف والركود، ومن ثم يصير هو الظلم بعينه، وهكذا لا يمكن لحاكم مستبد ولو كان عادلاً، أن يقيم مجتمع العدل بدافع من قيدين أساسيين:
القيد الأول يتعلّق بطبيعة المجتمع الحديث، الموسوم بالاتساع الكبير والقائم على التخصص الشديد، بحيث يصعب على الحاكم الفرد ممارسة عدله على نطاق يتّسع لكل دولته. فطاقته الإنسانية محدودة، وقدرته على المتابعة ضئيلة. كما أنه غير قادر على فهم جميع الظواهر المحيطة به، واتخاذ القرارات في كل المشكلات التي تواجهه نتيجة لتقسيم العمل المعقد. ومن ثم، فهو إما غير قادر على رؤية كل شيء بنفسه، وإما غير قادر على فهم حقيقة كل ما يراه. وفي الحالين، سيكون مضطراً للاستعانة بآخرين سواء لينقلوا إليه ما لم يره بنفسه، وهم رجال السياسة والإدارة، أو ليحلّلوا له ما استغلق عليه فهمه، وهم رجال العلم والمعرفة.
وهكذا يتحوّل هؤلاء الرجال من الصنفين، إلى حكام حقيقيين، سرعان ما يصطبغون بالبيئة السياسية التي يعملون في سياقها: فهي إما بيئة حرية وسيادة قانون، يصيرون معها نخبة حاكمة جيدة، خشية عقاب القانون ورقابة البرلمان، وسطوة الإعلام الحر، وضغوط الصحافة المستقلة... وإما بيئة تسلّط وفساد، يتحولون فيها، بتأثير غياب الشفافية والرقابة القانونية والبرلمانية الفعالة، إلى بطانة سوء، وجماعة مصلحة، لا تتنافس مع آخرين للفوز بالسلطة، بل تجد السلطة في يدها، مثل ثمرة يانعة، تقبض على زمامها بسهولة لتدبر بها منافعها.
والقيد الثاني يتعلّق بالطبيعة الإنسانية المحدودة بالزمن. فالحاكم مهما كان صحيح البدن، له عمر رجل واحد لا يستطيع تجاوزه، فيرثه آخرون غالبا ما يكون عدلهم أمراً محتملاً، يعكس أملاً في صدفة جديدة سعيدة غالباً ما تكون نادرة. وفي المقابل، فاستبدادهم يظلّ أمراً مؤكداً، إذ لم يعرف التاريخ تقريباً حاكماً عادلاً ورثه آخر أعدل منه، فيما عرف التاريخ كثيراً من الحكام الفاسدين والظالمين ورثهم من هم أفسد وأظلم منهم.
فإذا كان عبدالناصر عادلاً مع الاستبداد، فقد ورث السادات استبداده من دون عدله، مع كونه رجل دولة حقيقياً، فيما ورث حسني مبارك الاستبداد من دون عدل عبدالناصر ودهاء السادات، فاستحالت مصر ليس فقط بلداً غير ديموقراطي، ولكنْ أيضاً غير عادل، إذ جمع بين ثراء المهراجات، وفقر الشحاذين. بل الأهم أنه صار بلداً رخواً، استحال ساحة للمنافسة عليه، يعيش حياته يوماً بيوم، على طريقة عمال التراحيل أو الباعة الجوالين، من دون يقين بمستقبل آت، أو تخطيط لغد قادم سوى مشروع التوريث الحزين، الذي كان بمثابة انقلاب على التراث الجمهوري كلّه، دعا الناس إلى الثورة عليه.
درس التاريخ إذاً أن المستبد العادل ليس إلا صدفة سعيدة تواتي مجتمعاً ما في لحظة ما، لا يتوجب انتظارها، أما العدل فقيمة كبرى يتعين على كل المجتمعات تأسيسها، لتكون ديدنها، فتبقى سيدة لنفسها، مالكة لمصيرها، عصية على الغواية والخداع، ولن يكون ذلك إلا بالحرية، حيث القواعد الواضحة تنظم عمل الحاكم والمحكوم، والقوانين الصارمة تضبط المسافة بينهما على المقياس الصحيح.
غير أن هؤلاء المستبدين يتصرفون دوماً كالحبيبين، اللذين يتصوران في بدء علاقتهما أن مشاعرهما غير مسبوقة في صدقها، ومن ثم سيكون زواجهما استثنائياً في نجاحه، فإذا بهما بعد قليل أكثر الناس فشلاً، ومحض حالة تكررت ملايين المرات. وهكذا المستبدون، يتصورون دوماً أن استبدادهم سيأتي بعدل استثنائي وازدهار غير مسبوق، فإذا بهم بعد سنوات قليلة يدركون أن الاستبداد واحد، وأن العدل سنّة كونية، نتيجة لا تتحقق إلا بمقدماتها، فهل يتعلم المستبدون؟. |