الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ١٣, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
تطرُّف ديني وإرهاب... أم «إلحاد» و «انحلال» ؟! - وحيد عبدالمجيد
حين تكون الرؤية السياسية غائمة يُخيّم الضباب، ويصبح صعباً تحديد الاتجاه من دون التباس. ويسهل لكل من يتابع الأوضاع في مصر، فهم أن التطرف والإرهاب هما مصدر التهديد الرئيسي، كما هي الحال في بلدان عدة في المنطقة. غير أنه ليس سهلاً بالدرجة نفسها فهم مغزى صنع تهديد آخر يبدو في بعض اللحظات كما لو أنه الأخطر بمقياس انغماس أجهزة أمنية ومحلّية ومؤسسات دينية رسمية في مواجهته، وتعاونها ضمنياً مع قوى سلفية تُعدها جهات أخرى في نظام الحكم نفسه رصيداً للتطرف، ومن ثم الإرهاب.

وفي الشهور الأخيرة، زاد عن حدّه التحريض الذي يظهر في صورة موجات غير منتظمة، ضد ما يسميه البعض «انحلالاً أخلاقياً» و «انفلاتاً من القيم الدينية». وظهرت موجة جديدة في نهاية الشهر الماضي، ضد ما يُطلق عليه «ملابس خليعة» ترتديها فنانات في حفلات غنائية، على نحو يُهدر ميراثاً طويلاً من احترام الحيّز الخاص للإنسان في ما يتعلق بملبسه.

وتأتي هذه الموجة بعد أخرى لوحقت فيها فتيات فعلاً، وأُلقي القبض على بعضهن وحبسهنّ بعد اتهامهن بـ «الخلاعة»، بسبب رقصهن في «كليبات» بُثّت عبر «يوتيوب».

وإذا كان هذا النوع من الملاحقات غريباً على أية دولة لها صلة بالعصر الحديث، فالتحريض المستند الى خرافات ضد سائحين مختلفين في العقيدة مُجرَّم في مثل هذا النوع من الدول، فضلاً عن ضرره الهائل في بلد تشتدّ حاجته إلى إنقاذ قطاعه السياحي. وعلى سبيل المثال، اتُّهم سائحون بإقامة «حفلات ماسونية» في الهرم. ولولا عقلانية وزير الآثار، الذي أوضح أن هؤلاء السائحين الآسيويين يمارسون نوعاً من طقوس الاستشفاء بواسطة «اليوغا»، لكانت فضيحة كبرى.

ومع ذلك، لا تتوقف حملات التحريض التي تطاول السياحة، مرة بدعوى تصوير فيلم «جنسي» خلسة في منطقة الأهرامات، وأخرى بزعم ممارسات «منافية للأخلاق»!

وليس جديداً السعي إلى تضييق المجال العام الاجتماعي عبر ذرائع دينية وأخلاقية كان مفترضاً أنها تراجعت بعد صدمة حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، بخاصة أن القلق من مثل هذا التضييق كان أحد عوامل إسقاط سلطتها. لكنها جديدة هذه التعبئة ضد ما يُقال عنه إلحاد، وتورط مؤسسات رسمية في مواجهة ظاهرة مصنوعة لا يجد صانعوها ما يستندون إليه في ادعائهم أن أعداد الملحدين تزداد في صورة يرونها خطيرة. لذلك يلجأون إلى صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي توصف بأنها «ملحدة»، من دون تمييز بين المقتنعين بها، وزائريها بدافع المعرفة العامة أو حبّ الاستطلاع. كما تُدرج ضمن ما يُعدّ إلحاداً، صفحات علمانية غير معنية بالإيمان الديني بل بالعلاقة بين الدولة والدين. ويبلغ الأمر مبلغ الهزل حين يُدرج ضمن الملحدين من يطالبون باستبعاد الدين من بطاقة الهوية، والسماح بالزواج المدني! ومع ذلك، تظل هذه الأرقام التي يُستند إليها لـ «التعبئة» ضد خطر الإلحاد، هزيلة إلى الحدّ الذي يجعلها حجة ضد من يستخدمونها.

كما أن من يزور الصفحات المتّهمة بـ «الإلحاد» مصطحباً عقله، يدرك أنها تعبّر عن حال هي أقرب إلى التمرد، وتمثّل محاولة للبحث عن وسيلة جديدة للاحتجاج والتنفيس عن غضب مكبوت.

ومع ذلك، تُطرح قضية الإلحاد كما لو أنها خطر هائل. وكم بدا بعض مشاهد مواجهة هذا «الخطر» مدهشاً بمقدار ما هو مثير للقلق في لحظة فارقة. وكان أكثرها إثارة مشهد حملة أمنية استهدفت قبل شهور قليلة مقهى في وسط القاهرة وأغلقته، بدعوى أن ملحدين يجتمعون فيه، ثم وقف مسؤول محلّي كبير أمامه يعلن «النصر المبين»!

ولا يحدث مثل هذا الانغماس في معارك وهمية إلا حين يُخيم ضباب من نوع لا يحجب الطريق فقط، بل يخلق التباسات تدفع إلى الاندفاع في طرق محفوفة بأخطار حقيقية، بخاصة حين تجتمع عوامل أربعة:

أولها، الاعتقاد بأن مشكلة الشباب في مصر صغيرة ومحصورة في الناشطين سياسياً الذين ضاق المجال العام أمامهم. فهؤلاء قليلون للغاية قياساً بمن يشعرون باغتراب وضياع في مجتمع يمثل الشباب غالبية سكانه (أكثر من 65 في المئة من المصريين تحت سن الثلاثين).

وثانيها، الفقر المعرفي الذي يُعشش في كثير من المؤسسات والأجهزة على نحو لا يُتيح فهم الفرق بين حال تمرد يعود إلى استياء أو غضب، وإلحاد حقيقي يرتبط بحكم التعريف بنظرة فلسفية مادية تتطلب مستوى ثقافياً مرتفعاً لم يبقَ منه في مصر إلا أقل القليل. فالإلحاد في أساسه إنكار للأديان في إطار رؤية مادية بديلة للكون والحياة، وانطلاقاً من بحث معرفي أفضى إلى تشكيل هذه الرؤية.

وحين يغيب هذا كلّه، يصبح ما يوصف بأنه إلحاد تعبيراً في الغالب الأعم عن تمرّد يبحث أصحابه عن أية لافتة للتعبير عنه، ويلجأ بعضهم إلى هذه اللافتة المثيرة بطابعها، بخاصة حين تُرفع في مجتمع متديّن.

أما العامل الثالث، فهو وجود اتجاه قوي إلى إعادة إنتاج سياسة مواجهة المتطرفين الذين يزعمون احتكار الدين عبر إثبات أن السلطة أكثر منهم تديناً وحرصاً على العقيدة، وأن «إسلامها» هو الصحيح الوسطي المعقول في مقابل «إسلامهم» الذي يدفع إلى التطرف والإرهاب.

وهذه هي المرة الثانية التي تُعتمد فيها هذه السياسة، إذ استُخدمت من قبل في الخمسينات والستينات في مواجهة جماعة «الإخوان المسلمين»، وأتت بنتائج عكسية لم تُستوعب دروسها. فكانت هذه السياسة ضمن أهم أسباب التوسع في إضفاء طابع ديني مغلق على المجتمع، ومساعدة جماعات دينية متشدّدة على الانتشار والتوسع.

ويبقى عامل رابع، وهو العلاقة بين عدم وضوح الرؤية السياسية وحال أجهزة ومؤسسات شاخت وصارت غير قادرة على التمييز بين أخطار حقيقية وأخرى مصنوعة. وربما كان هذا ما يجعل بعض من قرأ أعمال الكاتب الألماني فريدريك نيتشه اللاعقلانية، يشعر بأن مطرقته التي استخدمها في شكل رمزي في بعض أعماله هوت على العقل العام في مصر، فيما قد يبدو لآخرين أن عدم تجديد دماء الأجهزة والمؤسسات التي هرمت أدى إلى ضمور عقلها، فلم تعد قادرة على إدراك أن دورها هو الارتقاء بالخدمة العامة وليس مراقبة الحياة الخاصة واقتحامها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة