لم يعد ممكناً للمرء أن يقف صامتاً أمام فصول المأساة الإنسانية السورية، أو أن يبقى ينتظر انتصار ثورة لا وجود لها إلاّ في مخيّلات الحالمين.
طبعاً، هذه الكارثة الرهيبة نتيجة مباشرة لإصرار بشار الأسد على التمسّك بالسلطة ولو احترق البلد كله. لكن، هل يكفي أن نتلهّى بهذه الحقيقة ونحن نرى ملايين السوريين يُرمى بهم في البحار ويُقضى عليهم بأبشع أصناف الإهانة والعذاب؟
ثم لنقارن بالعراق، لقد تم التخلّص من صدّام حسين منذ 2003، فهل أدّى ذلك إلى بناء بلد آمن ومستقرّ، بل هل أدّى ذلك إلى مجرّد تحسين خدمات الكهرباء والريّ في البلد؟ وما هو البديل في سورية غير حكم «داعش» و «النصرة»، فهل يمكن أن يكون هذا مراد عاقل واحد في الكون؟
علينا الاعتراف بأنّ ثمة حالات في التاريخ تفرض قبول السيئ لتفادي الأسوأ، وشرب الحنظل لتجنّب السم الزعاف. إذا كان التدخل الخارجي ضدّ الأسد مستحيلاً بحكم الموقف الإيراني والروسي، والمعارضة المسلّحة الديموقراطية أو الإسلامية المعتدلة مجرّد سراب، والانهيار الذاتي للنظام مستبعداً بحكم البنية الطائفية للبلد، فلا مناص من إعادة التعريف بطبيعة القضية: نحن لسنا أمام ثورة، وإنما نحن أمام كارثة إنسانية يتطلّب التخفيف من ويلاتها اللجوء إلى آليات العمل الإنساني. ينبغي عزل الأسد في المربع الذي ظلّ مسيطراً عليه، وطرد «داعش» و «القاعدة» من سورية بعمل عسكري دولي، ثم وضع المناطق التي كانت تحت سيطرتهما تحت الوصاية الدولية ممثلة بمنظمة الأمم المتحدة. يمكن أن يعيش السوريّون على هذا الوضع سنوات عدّة حقنا للدماء وتخفيفاً من الآلام، إلى حين تحدث متغيرات محلية وإقليمية تسمح بتصوّر حلول أفضل.
يسعى القادة الغربيون اليوم، إلى تخدير الرأي العام الغربي بالتلاعب بالكلمات، ويسعون إلى إقناعه بأنّ الوضع السوري ينتقل من الحلّ العسكري إلى الحلّ السلمي، وكأنّ ثمة حلاً سلمياً وأنه يمكن أن نتصوّر في سورية حكومة وحدة وطنية أو انتقالاً سلساً للحكم. أما عربياً، فثمة صمت رهيب وآثم أمام المأساة السورية، يذكّر بما حصل للفلسطينيين سنة 1948، عندما دفعوا إلى الخيارات الأقصى ثم تُركوا وحدهم يواجهون سوء المصير. لكن في النهاية، كلّ شعب هو المسؤول الأوّل عن نفسه، والشعب السوري قد وقع ضحية نظام بلغ الحدّ الأقصى من الوحشية، ومعارضة بلغت الحدّ الأدنى من الغباء. لقد كانت فكرة «عسكرة» الثورة السورية خطأً فادحاً يرتقي إلى مستوى الجريمة السياسية، وأتعس منه المراهنة على تدخل غربي على الطريقة الليبية، وهو أمر كان مستحيلاً منذ البداية، وأكثر سذاجة تصوّر أنّ بعض المنتجين الأيديولوجيين يمكن أن يقود ثورات شعبية. كانت الحسابات واضحة الخطأ منذ البداية، لذلك جاءت النتيجة كارثية. وإذا كان المصريون والليببيون والتونسيون يتحدثون اليوم عن فشل ثوراتهم، فلماذا الإصرار الأعمى على أن مشكل سورية هو ثورة تنتصر أو لا تنتصر؟ هذه الثورة لا توجد إلاّ في المخيلات الحالمة، إن لم تكن بناءات آثمة لأقلام تعيش آمنة خارج الجحيم السوري. ما يوجد فعلاً، هو مأساة رجال ونساء وأطفال لا بدّ من السعي الحثيث الى التخفيف منها بما أمكن.
ثم إنّ للوضع السوري ارتدادات ما فتئت معالمها تتعاظم منذ فترة. إنّ تمدّد «داعش» في الشرق الأوسط سيحدث ضرراً بالغاً بكلّ الدول والمجتمعات، وسيكون بمثابة السرطان العسير الاستئصال. وفي المغرب العربي، أصبح واضحاً ضرر عودة المجاهدين في سورية، إذ كانوا وراء غالبية العمليات الإرهابية التي حصلت في تونس، والشبكات التي اكتشفت في المغرب، فضلاً عن دورهم في السيطرة على مدينة سرت الليبية. أوروبا نفسها قد تفقد نظامها الأمني الموحد المعروف بماستريخت، وتفقد التوازن بين القوى السياسية المعتدلة وأقصى اليمين بسبب أزمة اللاجئين السوريين. هذا الثمن كلّه أصبح مشطّاً جدّا.
عزل الأسد وليس التخلّص منه، المساعدة الإنسانية للسوريين وليس الدعم لقضية مجردة تُدعى الثورة، هذا هو العنوان المناسب للمرحلة الحالية، وباسم الصبي آيلان عبدالله كردي وباسم عشرات الآلاف من المدنيين الذين رُمي بهم في البحر وشُرّدوا في كل البلدان، ينبغي أن نتوقّف عن الشعارات الجوفاء، ونطلب من كلّ الأحرار في العالم أن يدفعوا في هذا الاتجاه. |