تركز الفضائيات على أخبار المال والأعمال والبورصات، فهل المقصود التثقيف المالي أم جعل المال المرجعية الأساسية عند المشاهدين؟ وتمثل الرياضة بفضل التحالف التجاري بين الفضائيات وشركات الإعلانات وشركات السلع الرياضية، مجالاً خصباً لترسيخ قيم الربح السريع، بإبراز نجومها كنماذج مثالية، فلم تعد الرياضة تقاس بالأداء والروح الرياضية العالية بل بأسعار الرياضيين والمساومات بين الأندية لبيع الرياضيين، ما جعل هذا المجال يمثل للشباب أملاً في الخلاص وطريقاً قصيراً للكسب والشهرة.
لقد تبنى مجتمع الإعلام الحالي أيديولوجية الســـوق والربح الــسريع، وكما يرى بيار بورديو أن هيـــمنة ثقافة الربح جعلت من الفضائيات أجهزة لا تفكر، فالتلفزيون يمارس أنماطاً من العنف الرمزي تتمثل في برامج العنف والدماء والجنس وحوادث المجتمع، وهي تهدف الى صرف الانتباء عن القضايا الجوهرية. وأصبح الإعلام التجاري عبر الفضائيات قادراً على الوصول إلى الشباب في مختلف أنحاء العالم، وهو شديد التأثير في هذه الفئة بسبب قدراته الخارقة على الإبهار والإثارة، علاوة على الصدقية النسبية التي يتميز بها الإعلام الأجنبي مقارنة بتردّي الإعلام المحلّي المرتبط بالحكومات وبتلقّي الشباب العربي من خلال الفضائيات برامج المنوعات والدراما والإعلانات، التي تكرّس ثنائية وازدواجية ثقافية ملحوظة. فهي تعرض برامج العنف والجريمة والانحراف، وفي الوقت نفسه تعرض البرامج الدينية التي تعتمد على خطاب سهل مباشر يقدّمه دعاة شباب ويستقطب آلافاً من الشباب العربي.
هذا التناقض الذي يتذرّع بحجة التنوّع، إنما يكرس الانفصام الذي تعاني منه الثقافة العربية. ويسعى الإعلام العولمي إلى الترويج لثقافة الحياد وموت الأيديولوجية، ويعمل على تسطيح الوعي وإفراغ الثقافة من أي محتوى وطني وتحرّري، ويرمي إلى إلغاء العقل وملكة النقد ويستند إلى خمسة أوهام: الفردية، الحياد، الخيار الشخصي، ثبات الطبيعة البشرية، وغياب الصراع الاجتماعي. ومعنى ذلك أن الثقافة الإعلامية العولمية الاستهلاكية المتأمركة تكرس الأيديولوجية الفردية المستسلمة لدى المشاهدين من الشباب.
لقد أدت محدودية الإنتاج التلفزيوني والسينمائي العربي وعدم قدرته على شغل مساحة الوقت من ساعات البثّ، إلى اضطرار الفضائيات العربية لبثّ الإنتاج المصري القديم أو لإنتاج برامج متسرّعة ومسطّحة أو اللجوء إلى المباريات الرياضية. كما يدفع هذا العجز المحلّي الفضائيات العربية إلى استيراد جزء كبير من برامجها من أميركا وأوروبا، وقد لا تتفق هذه البرامج مع أولوياتها وخصوصياتها، وبالتالي تتحوّل الفضائيات العربية إلى أداة لخدمة الثقافة الوافدة والمهيمنة.
يرى البعض أن انتشار أنماط الثقافة الأميركية وتغلغلها بين الشباب على النطاق العالمي، سواء في الموسيقى أو المسلسلات أو الأفلام والأكلات السريعة والملابس الجينز، يرجعان إلى أسباب عدة، أولها هيمنة شركات الإعلان العالمية على التسويق العالمي، ما ساعد على صبغ الأذواق والأزياء بالطابع الأميركي لدى قطاعات كبيرة من الشباب.
ويلاحظ تفوّق أميركا في صناعة الموسيقى الشعبية والأفلام والمسلسلات، وقد تزامن انتشارها في الأسواق الخارجية مع ظهور التلفزيون، ثم اكتساحها العالم في ظل البثّ الفضائي من خلال الأقمار الاصطناعية.
وتشير الدراسات إلى أن أميركا لا تصدّر إلى الأسواق الخارجية إلا أردأ ما تنتجه من سلع ثقافية، ويرجع ذلك إلى هيمنة الشركات العملاقة ووكالات الإعلان الدولية، التي تفضّل ترويج المنتج الثقافي الاستهلاكي ذي الطابع الشعبي التجاري ضماناً للأرباح الهائلة، فلا تحرص على تصدير الثقافة الرفيعة التي لا تلقى الرواج الاقتصادي. وهناك أسباب خاصة بالثقافة الأميركية تجعلها قابلة للتسويق أكثر من سواها. أولاً: تنوّع الأنساق التي تتشكل منها الثقافة الأميركية باعتبارها مجتمع مهاجرين، ما حال دون ظهور هوية ثقافية أو حضارية عميقة الجذور للشعب الأميركي. وقد استثمر تجار العولمة هذه السمة بكفاءة، حيث استفادوا من الخصائص التي تتميز بها الثقافة الأميركية، ســـواء التنوّع الإثني أو المرونة وسهولة الانتشار وتوافقها مع طبيعة العصر التي تميل إلى السرعة والسطحية. وهناك عامل آخر مهم تتميز به صناعة الثقافة الأميركية، هو تكثيف اهتمامها على الشباب داخل أميركا، ما ساعد على انتشارها وتأثيرها في الشباب في المجتمعات الأخرى.
في مواجهة هذا التفوّق الأميركي، هناك صورتان للمقارنة، تتمثل الأولى في الثقافة الفرانكوفونية وتتزعّمها فرنسا وكندا، وتتجلى الصورة الثانية في ثقافات الجنوب وتتزعمها بعض دول أميركا اللاتينية والهند ونسبياً اليابان. ولا شك في أن التحدي الذي يواجه العالم العربي يتمثل في ضرورة مواجهة خطر هيمنة تسليع النشاطات والقيم والعلاقات الإنسانية، وتقع مسؤولية هذا الدور على ثلاثة فاعلين أساسيين: النخب المثقفة، مؤسسات الدولة، وفضاءات المجتمع المدني. فالشباب العربي في حاجة إلى القدوة والقيادة الواعية، وهذه المسؤولية تقع على عاتق المثقّفين والمبدعين. أما دور الدولة فهو يستلزم رعاية الثقافة الجادة ومساندة الإبداع للوقوف في وجه الثقافة الاستهلاكية. ولا يمكن أن تنجح الدولة وحدها في تحقيق هذه المهمة، بل لا بد من مشاركة منظمات المجتمع المدني المتمثّلة في الأحزاب والنوادي والجمعيات الأهلية والأسرة والمدرسة. فالتحدي الرئيسي هو تأسيس أجندة ثقافية عربية بديلة موجّهة إلى الشباب.
* كاتبة مصرية. |