الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ٦, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
من أزمة الليبرالية إلى نهاية الديموقراطية النيابية - السيد يسين
اهتممت بالدراسة المنهجية للديموقراطية باعتبارها نظاماً سياسياً أساسياً منذ سنوات بعيدة. تم ذلك في ضوء التصنيف العلمي للنظم السياسية، والذي يحصرها في ثلاثة نظم هي الشمولية والسلطوية والليبرالية.

واعتمدت على هذا التصنيف الأساسي الذي وضعه عالم الاجتماع السياسي لويس كوزر لأنني فضلته على تصنيفات أخرى مختلفة يزخر بها علم السياسة المقارنة لبساطته وإحكامه الصلة بين الدولة والمجتمع المدني.

فهذا التصنيف يقوم على أساس أنه في النظم الشمولية يتم محو المجتمع المدني بالكامل، وتكون الهيمنة السياسية غالباً لحزب واحد كما كانت الحال بالنسبة إلى الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق. أما في النظام السلطوي فقد تتاح حرية نسبية لمؤسسات المجتمع المدني التي تعمل عادة تحت الرقابة الدقيقة للدولة، ولا يبقى أمامنا سوى النظام الليبرالي والذي يتيح - في النظرية - أوسع مساحة لعمل مؤسسات المجتمع المدني من دون تدخل من الدولة التي ترفع شعارات حرية السوق الاقتصادية وحرية السوق السياسية إن صح التعبير.

غير أنه ثبت من خبرة القرن العشرين أن الممارسة تختلف كثيراً عن الصياغات النظرية. فالنظم الشمولية التي ظنت أنها ستعيش إلى الأبد سقطت سقوطاً مدوياً، ونموذجها الأمثل هو انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي تبعه سقوط دول شمولية أخرى متعددة سواء في أوروبا الشرقية أو في قارات أخرى.

إضافة إلى ذلك، جرفت «الموجة الثالثة للديموقراطية» نظماً سلطوية متعددة في مختلف القارات كما عبر عن ذلك عالم السياسة الأميركي الشهير صمويل هنتنغتون. ولا يعني ذلك بالضرورة أن الليبرالية التي تعبر عن جوهر الديموقراطية عاشت حياتها المديدة من دون أزمات. على العكس من ذلك، فإن الليبرالية تمر في الوقت الراهن بأزمة عميقة جعلت بعض الباحثين النقديين يتحدثون صراحة عن أزمة الديموقراطية النيابية و «ما بعد الليبرالية».

وقد سبق لنا أن عرضنا في مقال سابق لنا عنوانه «أزمة الديموقراطية» العالمية («الحياة» في 29 حزيران - يونيو 2014) بصورة منهجية للجذور العميقة لأزمة الديموقراطية. وقد اعتمدنا في ذلك على الدراسة المهمة التي نشرها البروفيسور وولفغانغ مركل Wolfgang Merkel في جامعة همبولدت في برلين.

وقد أوجزنا في مقالنا السابق خلاصة دراسة مركل عن أزمة الديموقراطية المعاصرة. ومبناها أن نظريات أزمة الديموقراطية ظهرت في السبعينات من القرن الماضي، وكان قطبها البارز هو الفيلسوف الألماني الشهير هابرماس Habermas الذي نشر عام 1973 كتاباً نقدياً بالغ الأهمية عنوانه «أزمة الشرعية في الرأسمالية المعاصرة». وتضاف إليه مؤلفات عالم سياسة آخر هو كلوز أوف Claus Offe، والتي نشرت في أعوام 1971، 1979، 1984. وبعد كتاب هابرماس بثلاث سنوات، نشرت «اللجنة الثلاثية» تقريراً شهيراً كتبه كل من ميشيل كروزيه الفرنسي وصمويل هنتنغتون الأميركي وواتاناكي الياباني في عنوان «أزمة الديموقراطية» كان له صدى عالمي كبير. وبعد ذلك بثلاثين عاماً، ظهر مفهوم ما بعد الديموقراطية post democracy، والذي ابتدعه ثلاثة من علماء السياسة هم كولن كروس (2004) وجاك رانسييه (2002، 2007)، وكولن هاي (2007).

ويمكن القول أن خلاصة نظرية هابرماس هي أن الأزمات الاقتصادية تهدد استقرار الديموقراطية ونوعيتها. ولعل «أزمة اليورو» التي ظهرت عام 2008 تشير إلى أهمية هذه الفكرة.

ويمكن القول أن نظرية كولن كروس يمكن إجمالها في السؤال من يحكم؟ تقرر أن العولمة من جانب والتكامل الأوروبي الذي تم بالتطبيق لنظرية الليبرالية الجديدة new liberalism تشير إلى تحديات متعددة للنظام الديموقراطي، والسؤال المطروح هنا هو هل المؤسسات الديموقراطية الشرعية هي التي تحكم فعلاً أم هي الشركات الكونية الكبرى والأسواق المالية العالمية والبنوك المركزية أو جماعات الضغط Lobbies هي التي تحكم فعلاً من وراء ستار؟

ومن ناحية أخرى، أشار عدد من كبار الاقتصاديين العالميين ومنهم من حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد مثل ستيغلتز Stieglitz (2012) وكروغمان Krugman (2012) إلى تصاعد ظاهرة عدم المساواة في العالم الغربي. ويلفت النظر أن هذين العالمين على وجه الخصوص هما اللذان وافقا بشدة على نظرية الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Pikitte، والتي نشرها في كتابه الذي أثار ضجة عالمية وعنوانه «رأس المال في القرن العشرين».

غير أنه لو نحينا هذه التفسيرات النظرية لأزمة الديموقراطية جانباً وحللنا بعمق الممارسات الواقعية من منظور مقارن، لاكتشفنا عقم الصيغة الديموقراطية في مجال التعبير الحقيقي عن المصالح الشعبية. ولدينا في الواقع حالات ممثلة لنظم ديموقراطية غربية بارزة لا مجال للتشكيك في رفعها أعلام الليبرالية وشعارات الديموقراطية.

الحالة الأولى البارزة هي حالة إيطاليا. فقد نجح المليونير المعروف سيلفيو بيرلوسكوني في انتخابات نيابية ديموقراطية لا طعن عليها، وتمت في إطار من النزاهة والشفافية، ولأن حزبه حصل على غالبية الأصوات فقد كلف تشكيل الحكومة. غير أنه ثبت يقيناً بعد ذلك، وأثناء ممارسته مهامه كرئيس الوزراء، أن الرجل من رجال الأعمال الفاسدين الذين كونوا ثروتهم من المعاملات المالية المشبوهة. إذا أضفنا إلى ذلك فساده الخلقي، والذي تمثل في وقائع تتعلق بعلاقاته مع عالم البغاء في إيطاليا لأدركنا أي كارثة يمكن أن تنجم عن ممارسة الانتخابات النيابية بالطريقة التقليدية. ومن الطريف حقاً، ونحن في عصر الاتصالات، أن يشاهد العالم حادثة اعتداء على بيرلوسكوني وهو رئيس للوزراء وكان يحضر أحد الاحتفالات في ساحة إحدى الكنائس في روما حين اندفع أحد المواطنين ووجه إليه لكمة شديدة أدمت وجهه الدماء الغزيرة إعلاناً عن غضب شعبي شديد لانتخابه وتوليه منصب رئيس الوزراء، على رغم فساده وعدم تمثيله الطبقات الشعبية.

وهذا الحادث يدل في الواقع على أن الحدس الشعبي أدرك من دون نظريات علمية أن هذه الانتخابات التي أتت ببيرلوسكوني زائفة، ولا تعبر حقيقة عن مصالح الناس.

وهذا يذكرنا على الفور بالانتخابات البرلمانية التي أجريت في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) والتي فازت فيها جماعة «الإخوان المسلمين» وحزب «النور» السلفي بالأكثرية. وأخطر من ذلك أن الرئيس المعزول محمد مرسي فاز بمنصب رئيس الجمهورية، لكن الشعب بغالبيته العظمى أدرك بحسه الفطري أن نظام «الإخوان» سرعان ما أعلن الديكتاتورية المطلقة بعد أن نشر مرسي «الإعلان الدستوري» الذي نصب فيه نفسه، أو على الأدق نصبه مكتب إرشاد جماعة «الإخوان» - ديكتاتوراً مطلق الصلاحية. فقد كان الهدف في الواقع تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى وإجراء انتخابات نيابية في أسرع وقت حتى تكتمل خطة «التمكين» التي وضعتها القيادات «الإخوانية» حتى تبدأ عملية «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع» والتي تكفل لهم، كما قالوا، أن يحكموا لمدة خمسمئة سنة مقبلة. وفي ضوء ذلك كله، من واقع الممارسات العربية والممارسات الغربية في دول ديموقراطية عريقة، نستطيع أن نصل إلى نتيجة بالغة الأهمية وهي انهيار نظام الديموقراطية النيابية.

وكنت ذكرت ذلك في كثير من مقالاتي في السنوات الماضية، لكنني اليوم بعد اطلاعي على أحدث الكتب في العلوم السياسية أستطيع أن أذكر أن التيار الغالب الآن في علم السياسة هو نهاية نظام الديموقراطية النيابية. ويشير إلى هذه الحقيقة بكل وضوح الكتاب الذي ألفه عالم السياسة سيمون تورمي Simon Tormey وعنوانه «نهاية السياسات النيابية» الصادر هذا العام (2015) عن دار نشر «بولتي».

هذا الكتاب الذي أثار مناقشات بالغة العمق في علم السياسة المعاصر يستحق في المستقبل أن نحلل أحكامه القاطعة الخاصة بأن الديموقراطية النيابية قد وصلت إلى منتهاها!

* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة